السؤال
ما حكم ترديد بيت الشعر:
"عطف الزمان بها علي ولم يكن *** يبدي الزمان علي أي تعطف"؟
وهل في ذلك مخالفة شرعية؛ لما فيه من سب الدهر بوصفه بالقسوة، كما في قول: (جار علي الزمن)؟
جزاكم الله خيرا.
ما حكم ترديد بيت الشعر:
"عطف الزمان بها علي ولم يكن *** يبدي الزمان علي أي تعطف"؟
وهل في ذلك مخالفة شرعية؛ لما فيه من سب الدهر بوصفه بالقسوة، كما في قول: (جار علي الزمن)؟
جزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الشعر قائم على المجازات، والاستعارات، والتوسع في العبارات، ومن ثم: فإنه من غير الصواب المحاكمة الحرفية الدقيقة لألفاظ الشعراء -أو حتى عبارات الناس الشائعة بينهم-، والمبادرة والمسارعة بتحريمها، وإدراجها فيما اصطلح عليه حديثا بالمناهي اللفظية، بناء على: ظاهرية لغوية، دون التفات للمجازات، والاستعارات، والسياق ومراد المتكلم.
وعلى كل حال: فإن ذم الدهر في الأشعار على أصناف، فمنه ما يكون من أهل الجاهلية الدهريين، ومن على شاكلتهم ممن يذمون الزمان، لما ينزل بهم فيه تسخطا على القدر، واعتقادا منهم أن الدهر فاعل ذلك بهم، وهذا كفر بلا شك.
وقد يجري على لسان بعض المسلمين من الأشعار ما فيه ذم للزمان على وجه التسخط والجزع من المقدور، بدون نسبة ذلك للدهر نفسه، وهذا لا يجوز، والواجب على من صدر منه التوبة والاستغفار، وتوطين النفس على الرضا بقضاء الله تعالى وقدره.
ومنه ما يكون من أهل الإسلام، وهؤلاء كثيرا ما يكون ذم الدهر في أشعارهم ذما لأهل الزمان، لما يصدر منهم من أخلاق رديئة، وأفعال ذميمة، وقد يكون ذلك من باب الاعتبار والاتعاظ بما تجري به المقادير من تقلبات أحوال أهل الزمان، وهذا الصنف -وإن كان غير محرم- إلا أنه ينبغي اجتنابه، لما فيه من المشاكلة للمحرم.
ومن تتبع أشعار العرب قديما وحديثا، وتأمل مقاصدهم، وسياقات كلامهم؛ تبين منه هذا التقسيم، وهو ما قرره ابن عبد البر في الاستذكار في شرح ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
وابن عبد البر على إمامته في الحديث وفقهه، فهو أيضا شاعر أديب، يقول في الاستذكار: المعنى عند جماعة العلماء في هذا الحديث: أنه ورد نهيا عن ما كان أهل الجاهلية يقولونه من ذم الدهر وسبه، لما ينزل من المصائب في الأموال والأنفس، وكانوا يضيفون ذلك إلى الدهر ويسبونه ويذمونه بذلك على أنه الفاعل ذلك بهم، وإذا وقع سبهم على من فعل ذلك بهم وقع على الله، فجاء النهي عن ذلك تنزيها لله تعالى، وإجلالا له، لما فيه من مضارعة سب الله وذمه، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا، قال امرؤ القيس: ألا إنما ذا الدهر يوم وليلة … وليس على شيء قويم بمستمرـ ... إلا أن أهل الإيمان إذا ذموا الدهر والزمان لم يقصدوا بذلك إلا أهل الدهر على قبيح ما يرى منهم، كما قال حكيم من شعرائهم:
يذم الناس كلهم الزمانا … وما لزماننا عيب سوانا
نذم زماننا والعيب فينا... ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب... ويأكل بعنا بعضا عيانا
وربما كان ذمهم للدهر على معنى الاعتبار بما تأتي به المقادير في الليل والنهار، كما قال أبو العتاهية:
إن الزمان يغرني بأمانه … ويذيقني المكروه من حدثانه
فأنا النذير من الزمان لكل من … أمسى وأصبح واثقا بزمانه
... وقد أنشدنا في باب أبي الزناد من كتاب التمهيد أشعارا كثيرة من أشعار الجاهلية، وأشعارا أيضا كثيرة إسلامية فيها ذم الزمان، وذم الدنيا وذم الدهر، إلا أن المؤمن الموحد العالم بالتوحيد ينزه الله -سبحانه وتعالى- عن كل سوء ينوي ذلك ويعتقده، فإن جرى على لسانه شيء على عادة الناس استغفر الله، وراجع الحق، وراض نفسه عن العودة إليه ... وأكثر ما يعني المسلم إذا ذم دهره ودنياه وزمانه: ختل الزمان وأهله وسلطانه، والأصل في هذا المعنى في الإسلام وأهله قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما كان لله، أو آوى إلى الله ـ وأما أهل الجاهلية: فإنهم كانوا منهم دهرية زنادقة لا يعقلون، ولا يعرفون الله، ولا يؤمنون. اهـ.
ثم إن ترديد أي بيت شعري لا يقتضي بالضرورة الرضا بمعناه، فمجرد نقل كلام ما؛ لا يستلزم إقرارا، ولا يأخذ حكم إنشائه بإطلاق.
قال ابن مفلح في الفروع: ولا يكفر من حكى كفرا سمعه، ولا يعتقده، ولعل هذا إجماع. اهـ.
والأولى بالمسلم أن يشغل لسانه بذكر الله تعالى، والنافع من الكلام.
والله أعلم.