الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الإمام الراتب لا ينبغي الافتيات عليه، وإقامة الصلاة قبل حضوره؛ ليؤم الناس غيره.
فإن تأخر عن وقته المعتاد بعث إليه رسول إن قرب، وإن كان بعيدا، وغلب على الظن عدم حضوره صلوا.
وينبغي تقديم الأولى في الإمامة حينئذ؛ لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، وإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلما. رواه مسلم.
وقال النووي في المجموع: قال الشافعي والأصحاب: إذا حضرت الجماعة، ولم يحضر إمام: فإن لم يكن للمسجد إمام راتب قدموا واحدا وصلى بهم، وإن كان له إمام راتب، فإن كان قريبا بعثوا إليه من يستعلم خبره؛ ليحضر أو يأذن لمن يصلي بهم، وإن كان بعيدا أو لم يوجد في موضعه، فإن عرفوا من حسن خلقه أن لا يتأذى بتقدم غيره، ولا يحصل بسببه فتنة استحب أن يتقدم أحدهم، ويصلي بهم للحديث المذكور، ولحفظ أول الوقت، والأولى أن يتقدم أولاهم بالإمامة، وأحبهم إلى الإمام، وإن خافوا أذاه أو فتنة انتظروه، فإن طال الانتظار وخافوا فوات الوقت كله صلوا جماعة، هكذا ذكر هذه الجملة الشافعي والأصحاب. انتهى.
وقال المرداوي في الإنصاف: إذا تأخر الإمام عن وقته المعتاد، روسل إن كان قريبا، ولم يكن مشقة. وإن كان بعيدا، ولم يغلب على الظن حضوره صلوا، وكذا لو ظن حضوره، ولكن لا ينكر ذلك، ولا يكرهه. انتهى.
وقد كان الأولى بالإمام الراتب بعد إقامة الصلاة، وتقديم الجماعة غيره، أن يقتدي به، ويصبر، وأما إمامته بالناس في بقية الصلاة، فهي جائزة، وتصح صلاتهم.
وفي صحيح البخاري: باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر؛ جازت صلاته. اهـ.
قال القسطلاني في شرحه: (باب من دخل) المحراب مثلا (ليؤم الناس) نائبا عن الإمام الراتب (فجاء الإمام) الأول الراتب (فتأخر الأول) الذي أراد أن ينوب عن الراتب، فهو أول بالنسبة لهذه الصلاة، وذاك أول لكونه راتبا، فالقرينة صارفة العينية إلى الغيرية على ما لا يخفى، وللأصيلي في نسخة: فتأخر الآخر (أو لم يتأخر جازت صلاته). أي في التأخر وعدمه ...
واستنبط منه: أن الإمام الراتب إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير: بين أن يأتم به أو يؤم هو، ويصير النائب مأموما، من غير أن يقطع الصلاة، ولا تبطل بشيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين. والأصل عدم الخصوصية خلافا للمالكية.
وفيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماما، وفي بعضها مأموما. اهـ.
وقال الخطابي في أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري): يجمع هذا الحديث أنواعا من العلم والأدب. منها: أن الصحابة لم يرهقوا الصلاة حين حان وقتها انتظارا لمجيء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبادروا إلى إقامتها في أول وقتها، فلم ينكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك من فعلهم.
ومنها: جواز بعض الصلاة بإمام، وبعضها بإمام آخر.
ومنها: جواز الائتمام بمن قد تقدم افتتاح المأموم صلاته قبله.
ومنها: جواز أن يكون الرجل في بعض صلاته إماما، وفي بعضها مأموما.
وفيه جواز صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلف أمته.
وفيه تفضيل أبي بكر وتقديم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياه في الصلاة، والرضا بإمامته لو كان ثبت في مكانه، وتم على صلاته، ولذلك أشار إليه بأن يقيم بمكانه.
وفيه جواز الدعاء والتحميد في الصلاة، ورفع اليد له عند حادث نعمة يجب شكرها، فلا يكون الاشتغال به ناقضا صلاته.
ومنها: أن أبا بكر عقل عن إشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر تقديم له وإكرام، لا أمر إيجاب وإلزام، ولولا ذلك لم يستجز مخالفته فيما أمره. اهـ.
وإذا كان الإمام راتبا، فيغلب على الظن أن قراءته صحيحة، وأن سرعته لا تخل بما يجب في التلاوة. فإن لم تتمكن من إكمال الفاتحة معه، فالراجح أن صلاتك صحيحة؛ لأن كثيرا من الفقهاء من المتقدمين وغيرهم لا يجب عندهم قراءة الفاتحة على المأموم في حال السر، بل يعتبرونها مستحبة له فقط.
وهذا مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- وهو المشهور من مذهب مالك.
قال القرطبي في "جامع أحكام القرآن": لا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في حال السر، فإن فعل فقد أساء، ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه. اهـ.
والله أعلم.