الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننوه أولا إلى أن العمل بالأحكام الشرعية لا يتوقف على ثبوت الإجماع عليها، ولكن من ترجح عنده حكم بدليل شرعي -إن كان أهلا لذلك- أو بتقليد عالم ثقة؛ وجب عليه العمل به، ولا يسوغ له أن يترك العمل به لمجرد وجود خلاف في المسألة.
قال ابن عبد البر -رحمه الله- في جامع بيان العلم وفضله: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر؛ فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر؛ فإن ذلك وصف حادث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في نفس الأمر لطلب الاحتياط. انتهى من مجموع الفتاوى.
أما مكالمة الرجل للشابة الأجنبية، أو العكس لغير حاجة، فهو باب فتنة.
قال الخادمي ـ رحمه الله ـ في كتابه: بريقة محمودية -وهو حنفي-: التكلم مع الشابة الأجنبية لا يجوز بلا حاجة؛ لأنه مظنة الفتنة. اهـ.
والشريعة جاءت بسد الذرائع المفضية إلى الحرام، فقد حرم الله -تعالى- الزنا، ونهى عن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه؛ فقال تعالى: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا {الإسراء:32}.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: يقول -تعالى- ناهيا عباده عن الزنى، وعن مقاربته، وهو مخالطة أسبابه ودواعيه. انتهى.
ولذلك نص بعض أهل العلم على منع إلقاء السلام على الأجنبية عند عدم أمن الفتنة.
قال النووي -رحمه الله- في كتاب الأذكار: وأما المرأة مع الرجل، فقال الإمام أبو سعد المتولي:
إن كانت زوجته أو جاريته أو محرما من محارمه، فهي معه كالرجل مع الرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه.
وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها، لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جوابا، فإن أجابها كره له.
وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها، جاز أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل رد السلام عليها.
وإذا كانت النساء جمعا، فيسلم عليهن الرجل، أو كان الرجال جمعا كثيرا، فسلموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يخف عليه ولا عليهن ولا عليها أو عليهم فتنة. انتهى.
وقال ابن حجر -رحمه الله- تعليقا على ترجمة البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال".
قال: والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة .....
وقال الحليمي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- للعصمة مأمونا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم، وإلا فالصمت أسلم. انتهى مختصرا.
وقال البهوتي -رحمه الله- في كشاف القناع: وإن سلم الرجل عليها أي: على الشابة لم ترده أي: السلام عليه، دفعا للمفسدة. انتهى.
ومحادثة الرجال للنساء لغير حاجة، على نحو ما هو شائع، في مواقع التواصل، والمتنزهات العامة وغيرها، وكذا خروج المرأة مع الرجل الأجنبي عنها إلى المطاعم، وأماكن الترفيه ونحوها، كل ذلك باب فتنة، وسبيل إلى شر عظيم، ولا يرتاب عاقل في منعه وكونه سببا إلى الفساد والوقوع في الفواحش.
أما الكلام مع الأجنبية عند الحاجة وأمن الفتنة؛ فهو جائز، ويدخل فيه ما يكون من صلة الأرحام غير المحارم، كأولاد العم والعمة، وأولاد الخال والخالة؛ فيجوز إلقاء السلام عليهن والكلام معهن بقدر ما تحصل به الصلة بشرط أمن الفتنة.
فقد ذهب الجمهور إلى استحباب صلة هؤلاء، وذهب بعض أهل العلم كالإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- إلى الوجوب، ولذلك جاء عنه الأمر بالسلام في مثل هذه الأحوال.
قال ابن مفلح -رحمه الله- في الآداب الشرعية: وقال مثنى: قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون له القرابة من النساء فلا يقومون بين يديه فأيش يجب عليه من برهم وفي كم ينبغي أن يأتيهم؟ قال: اللطف والسلام. انتهى.
وفيه أيضا: وقد سأله -يعني الإمام أحمد- رجل عن ابنة عم له تنال منه، وتظلمه وتشتمه وتقذفه، فقال: سلم عليها إذا لقيتها، اقطع المصارمة، المصارمة شديدة. انتهى.
والله أعلم.