السؤال
أنا من الموقنين بوجوب الأخذ بما صح من أحاديث الآحاد، سواء كان ذلك في العقائد أم الأحكام، وذلك للأدلة التي قال بها الإمام الشافعي في رسالته، وغيره كابن حزم مثلا، وابن القيم، والألباني رحمهم الله جميعا.. لكن عرضت لي شبهة، أبذل وسعي للإجابة عنها دون جدوى حتى الآن، ألا وهي:روى أبو داود بإسناد صححه الألباني، حدثنا أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له: ما أفزعك؟ قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع"، قال: لتأتين على هذا بالبينة، فقال أبو سعيد: لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه فشهد له..
ففي هذا الحديث رفض عمر بن الخطاب الأخذ بحديث أبي موسى الذي حدثه به عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما تكون في هذا حجة لمن يرفض الأخذ بالآحاد.. وحاولت أن أرد هذه الشبهة بالرواية عن عمر والتي فيها: (إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله شديد)، ولكن هذا ليس سديدا، فقد يحتجون علينا بقولهم: (نحن لم نتهم الرواة، لكن الحديث عن رسول الله شديد).. صراحة هذه هي أقوى شبهة عرضت لي في موضوع حديث الآحاد، ويقاربها حديث عائشة التي ردت فيه حديثا للنبي الذي فيه تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، لا يحضرني لفظه الآن، لكنه صحيح على ما أذكر.. لذا أرجو منكم جزاكم الله خيرا رد هذه الشبهة المتمثلة في هذين الحديثين أو هذين الأثرين.. وأيضا أريد معرفة هل موضوع الأخذ بالآحاد مجمع عليه عند أهل السنة.. أم هو محل خلاف بينهم.. أرجو التفصيل ما أمكن بارك الله فيكم، مع الرد القاطع الذي لا يبقى معه كلام بإذن الله.. ولا تنسوا أخاكم أسامة عباس من دعوة بظهر الغيب؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن هذه القصة ليس فيها حجة لمن يرفض الأخذ بأحاديث الآحاد، وإنما أراد عمر التثبت، ويدل لذلك أن عمر قبله لما شهد له أبو سعيد، ومن المعلوم أن خبر الإثنين يدخل في الآحاد، قال ابن حجر في الفتح: وتعلق بقصة عمر من زعم أنه كان لا يقبل خبر الواحد ولا حجة فيه لأنه قبل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره كما في الشهادة، قال ابن بطال وهو خطأ من قائله وجهل بمذهب عمر فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهذه الزيادة في الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أن أبا موسى فذكر القصة وفي آخره فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها آنفا فقال عمر لأبي موسى والله أن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أحببت أن أستثبت ونحوه، وفي رواية أبي بردة حين قال أبي بن كعب لعمر: لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت، قال ابن بطال: فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. انتهى.
وقال الكرماني في شرح البخاري: أراد عمر رضي الله عنه التثبت لما يجوز فيه من السهو والنسيان بدليل أنه قبل خبر حمل بن مالك وحده في أن دية الجنين غرة وخبر عبد الرحمن بن عوف في الجزية ثم نفس هذه القصة دليل على قبوله ذلك لأنه بانضمام شخص آخر إليه لم يصر متواترا فهو خبر واحد وقد قبله بلا خلاف. انتهى.
وأما ما ذكرته عن عائشة فإنه ليس ردا منها لخبر الواحد ولكنها حسبت ابن عمر لم يرو الحديث بلفظه واحتجت بالآية وبالحديث الذي حفظته هي رضي الله عنها فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وإني لجالس بينهما أو قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك ثم حدث قال: صدرت مع عمر رضي الله عنه من مكة حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب، قال: فنظرت فإذا صهيب فأخبرته، فقال: ادعه لي، فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول واأخاه واصاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما مات عمر رضي الله عنه ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، قال ابن عباس رضي الله عنهما عند ذلك والله {هو أضحك وأبكى} قال ابن أبي مليكة والله ما قال ابن عمر رضي الله عنهما شيئا.
وفي رواية لمسلم عن عروة أنه ذكر عند عائشة قول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئا فلم يحفظه إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: أنتم تبكون وإنه ليعذب.
وفي رواية له عن عمرة أنها سمعت عائشة وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها. وراجع الفتوى رقم: 25255.
وراجع كلام أهل العلم على قبول خبر الواحد في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 6906، 8407، 1405، 49999، 28926.
والله أعلم.