السؤال
ما حكم الشرع في مَن يقول: إن الاحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، ويناظر على هذا القول؟ وهل من قائل بهذا القول سلفًا أو خلفًا؟
ما حكم الشرع في مَن يقول: إن الاحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، ويناظر على هذا القول؟ وهل من قائل بهذا القول سلفًا أو خلفًا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا القول المذكور من أفسد الأقوال، وأشنعها، وحقيقته ومؤداه؛ اطّراح عامة أدلة الشريعة من القرآن، والسنة، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت، لكن كثيرًا من آياته ظنية الدلالة؛ ولهذا اختلف العلماء في تفسيرها، ودلالتها على الحكم الشرعي المنتزع منها.
وقطعي الدلالة هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، وهو ما يطلق عليه الأصوليون: النص، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ {البقرة:196}.
أما السنة النبوية، فهي متواترة، أو آحاد:
فالمتواتر، وإن كان قطعي الثبوت، إلا أنه قد يكون ظني الدلالة.
والآحاد اختلف فيه هل يفيد الظن أو القطع؟
فالجمهور على أنها تفيد الظن، وذهب جماعة من أهل العلم إلى إفادتها العلم، واليقين، وفصّل آخرون بين ما احتفت به القرائن، وما لم يكن كذلك.
ومن أمثلة ما احتفت به القرائن: أحاديث الصحيحين؛ لأن القرائن دالة على صدقها؛ لجلالة صاحبيهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق، واختار هذا القول جماعة، منهم ابن الحاجب، وإمام الحرمين، والآمدي، والبيضاوي، وابن تيمية.
وعلى القول بأن خبر الآحاد يفيد الظن، فهو حجة، يوجب العمل، عند جماهير أهل العلم من السلف، والخلف، قال ابن القاص: لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد. وقال القاضي أبو يعلى: يجب عندنا سمعًا، وقاله عامة الفقهاء والمتكلمين، وهو الصحيح المعتمد، عند جماهير العلماء من السلف والخلف. قال في شرح الكوكب المنير: ومنع قوم من قبول أخبار الآحاد مطلقًا، منهم: ابن أبي داود، وبعض المعتزلة، وبعض القدرية، والظاهرية، وكذلك الرافضة.
وقال ابن القاص أيضًا: وإنما دفع بعض أهل الكلام خبر الآحاد؛ لعجزه عن السنن، زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تواتر بخبر من يجوز عليه الغلط، والنسيان، وهذا ذريعة إلى إبطال السنن، فإن ما شرطه لا يكاد يوجد إليه سبيل. انتهى.
واستدل الجمهور على وجوب التعبد بخبر الواحد بأدلة، ذكرها ابن قدامة، وغيره، ومنها:
1. إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على قبوله، فإنه قد اشتهر ذلك عنهم في وقائع لا تنحصر، إن لم يتواتر آحادها حصل العلم بمجموعها:
منها: أن الصديق -رضي الله عنه- لما جاءته الجدة تطلب ميراثها، نشد الناس من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ فشهد له محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فرجع إلى قولهما. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي.
وروي عن عمر -رضي الله عنه- في وقائع كثيرة، منها: أنه سأل عن قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها، وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره. رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، واللفظ له.
ومنها أن عمر -رضي الله عنه- كان لا يورث المرأة من دية زوجها؛ حتى أخبره الضحاك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
ورجع إلى حديث عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. أخرجه البخاري.
ومنها: رجوع عثمان -رضي الله عنه- إلى قول فريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرها بالسكنى في دار زوجها لما قتل؛ حتى تنقضي عدتها. رواه مالك، وأحمد، وأصحاب السنن.
وتحول أهل قباء إلى القبلة وهم في الصلاة بخبر الواحد. رواه مسلم، وغيره.
وقال ابن عمر: ما كنا نرى بالمزارعة بأسًا؛ حتى سمعت رافع بن خديج، يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فتركتها من أجله.. رواه البخاري، ومسلم.
ولما اختلف المهاجرون والأنصار في الغسل من المجامعة من غير إنزال، أرسلوا أبا موسى إلى عائشة، فأجابته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مس الختان الختان، وجب الغسل. رواه مسلم. والمقصود المثال لا الحصر.
وعلى هذا؛ سار التابعون من بعد الصحابة، ولم ينقل عن واحد منهم أنه توقف في الأخذ بدليل من الكتاب، أو السنة الصحيحة؛ حتى يبحث عنه هل هو قطعي الثبوت أم لا؟ أو هل هو قطعي الدلالة أم لا؟
وقد علم بالاضطرار أنهم كانوا يتعبدون لله تعالى بما أمرهم به من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من شعائر الإسلام، وأكثر هذه الأحكام ثابت بأدلة ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت.
2. ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه، ورسله، وقضاته، وسعاته إلى الأطراف؛ لتبليغ الأحكام، والقضاء، وأخذ الصدقات، وتبليغ الرسالة، ومن المعلوم أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول؛ ليكون مفيدًا، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ الرسالة، فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل، ما بعث إليهم ما لا يجب العمل عليهم بقوله، وقد قال البخاري في صحيحه: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام. وساق -رحمه الله- أحاديث في وقائع متعددة، كلها دالة على إلزامه صلى الله عليه وسلم بقبول خبر الآحاد.
والحاصل؛ أن القول المسؤول عنه قول محدث باطل، مخالف للأدلة الشرعية، ولما عليه سلف الأمة، وخلفها الصالحون.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني