الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فشأن المؤمن التسليم والانقياد المطلق لألفاظ الوحي وتقبلها واعتقاد حسنها وصلاحيتها، وذلك لأنها جاءت من لدن حكيم خبير، ودليل هذا قول الله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء:65}. وقال سبحانه: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم {الأحزاب: 36}.
واعلم كذلك أن على العبد أن يحسن الظن بالله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) رواه بهذا اللفظ البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه مسلم، وأحمد والترمذي وغيرهم.
قال الحافظ في الفتح:(أنا عند ظن عبدي بي): أجازيه بحسب ظنه بي، فإن رجا رحمتي وظن أني أعفو عنه وأغفر له فله ذلك، لأنه لا يرجوه إلا مؤمن علم أن له ربا يجازي، وإن يئس من رحمتي وظن أني أعاقبه وأعذبه فعليه ذلك، لأنه لا ييأس إلا كافر)...
وفي صحيح
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله مائة رحمة. أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها.
واعلم أيضا أنه يجب على المسلم أن يجمع بين الرجاء والخوف، فلا يأمن مكر الله ولا يقنط من رحمته، فكما أن من صفاته الرحمة والعفو والمغفرة فمن صفاته أنه ينتقم وأنه شديد العقاب لقول الله تعالى: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم {الحجر:49-50}.
ولقوله : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. {غافر: 3}
ولقوله: قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون {الحجر:56}.
ولقوله: ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون {يوسف:87}.
ولقوله: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف:99].
وقد قال بعض الأدباء:
نبيء عبادي أني ===== أنا الغفور الرحيم
فتــلك الآيـة حق ===== لكنهــا يــا كــريم
معها وإن عذابي ===== هو العذاب الأليـم
ثم إن المرأتين اللتين ذكرت قد تكونان ممن استوت حسناتهم وسيئاتهم ثم رجحت سيئاتهما بهذه الذنوب فدخلت إحدى المرأتين النار بسبب أذى الجيران، ودخلت الأخرى النار بسبب تضييع حق القطة التي حبستها إضافة لذنوبهما الأخرى.
فقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في الجنة. والحديث صححه الألباني
وفي الصحيحين أيضا من حديث عبد الله بن عمر ر ضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
ويدل لما ذكر أن الكبائر لا تحبط جميع الحسنات، ولا تمنع قبولها، ولكن قد تحبط من الحسنات بقدرها عند وزن أعمال العبد، فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العقاب، كما في الحديث الذي رواه البخاري في "الأدب المفرد" ورواه أيضا غيره عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل. قيل: وما هما يا رسول الله؟ قال: يكبـر أحدكم في دبر كل صلاة عشرا، ويحمد عشرا، ويسبح عشرا، فذلك خمسون ومائة على اللسان وألف وخمسمائة في الميزان، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعدهن بيده، وإذا أوى إلى فراشه سبحه وحمده وكبره، فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة، قيل: يا رسول الله كيف لا يحصيهما. قال: يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا فلا يذكره. قال الألباني : صحيح.
فدل هذا الحديث على وزن الحسنات والسيئات والمقاصة بينهما، وقد قرر أهل العلم أنه لا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن رجل مسلم يعمل عملا يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة ويغرس له غراس باسمه، ثم يعمل ذنوبا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنة وهو في النار؟ فأجاب: إن تاب عن ذنوبه توبة نصوحا فإن الله يغفر له ولا يحرمه ما كان وعده بل يعطيه ذلك، وإن لم يتب وزنت حسناته وسيئاته، فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العذاب. وما أعد له من الثواب يحبط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عمل سيئات استحق بها النار ثم عمل بعدها حسنات تذهب السيئات. والله أعلم.
هذا ويجدر التنبيه إلى أن من رجحت سيئاته من الموحدين إذا عذب في النار لن يخلد فيها كما ثبتت الأحاديث بذلك.
واما الرجل المجاهد فانه كان يبطن النفاق ومات على خاتمة سيئة وهي الانتحار.
فقد روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال: فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة.
وعن أكثم بن أبي الجون قال: قلنا: يا رسول الله فلان يجري في القتال قال: "هو من أهل النار" . قلنا: يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال: "إنما ذلك إخبات النفاق وهو في النار".
قال: كنا نتحفظ في القتال كان لا يمر به فارس ولا راجل إلا وثب عليه فكثر جراحه فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله استشهد فلان قال: "هو في النار". فلما اشتد به ألم الجراح أخذ سيفه فوضعه بين ثدييه ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أشهد أنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، تدركه الشقوة والسعادة عند خروج نفسه فيختم له بها .
رواه الطبراني وإسناده حسن. قاله الهيثمي في المجمع.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أنه أخبره بعض من شهد النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ممن معه إن هذا من أهل النار، فلما حضر ا لقتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراح فأتاه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أرأيت الرجل الذي ذكرت أنه من أهل النار فقد قاتل والله أشد القتال في سبيل الله وكثرت به الجراح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار فكاد بعض الناس أن يرتاب فبينا هم على ذلك وجد الرجل ألم الجراح فأهوى يده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر به فاشتد رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد صدق الله قولك فقد نحر فلان نفسه.
قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وأما الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب...الخ.
فقد نص أهل العلم على أن هذا الحديث مسوق لبيان أن العبرة بالخاتمة التي يختم بها العمر، فمن كانت خاتمته خيرا فهو من أهل الجنة، ومن كانت خاتمته شرا، فهو من أهل النار، ثم إن كانت تلك الخاتمة مكفرة خلد في النار، وإن كانت معصية فقط ولم يتب منها ولم ترجح حسناته على سيئاته، فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذبه وإن شاء عفا عنه .
لهذا كان صالحوا هذه الأمة يخافون خوفا شديدا من سوء الخاتمة، ويسألون الله تعالى التثبيت عند الموت، ويقولون: إن من أمن الخواتيم هلك ، ثم إن هذه الخواتيم ميراث السوابق، فكم من عامل يعمل في ظاهره بما يتناقض مع ما في باطنه، وكم من عامل يعمل عمل الخير في الظاهر ومن وراء ذلك دسيسة سوء تكون سببا لسوء خاتمته والعياذ بالله تعالى، وكم من عامل يعمل عمل الشر في الظاهر، وفيه خصلة خفية حميدة يتداركه الله بسببها برحمة منه وفضل - فيختم له بخير .
ففي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار. الأعمال بالخواتيم.
وقد حمل الزرقاني الحديث على أن آخر عمل الإنسان أحق به، وعليه يجازى، ووجه ذلك: أن من انتقل من العمل السيئ إلى العمل الأحسن يعتبر تائبا، ومن انتقل من الإيمان إلى الكفر يعتبر مرتدا.
ويمكن حمله كما قال ابن حجر على من يعمل العمل الصالح رياء ونفاقا ثم يختم له بالشر، ويدل لكلا الاحتمالين حديث البخاري: إن العبد ليعمل في ما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار. ويعمل في ما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة. وإنما الأعمال بخواتيمها. ويدل لما قال الزرقاني حديث أحمد في المسند: لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا. وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا. وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه. صححه الأرناؤوط والألباني.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم":
وقوله في ما يبدو للناس: إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة. قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلا عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال هو كافر بما تقول، ومات على ذلك. قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر. فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق. اهـ
وأما حديث الترمذي قال الله: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.
فهو محمول على من تاب وكان بعيدا من الشرك, وقد يغفر الله تعالى للموحد ولو لم يتب لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا {النساء: 116}.
والله أعلم.