أدلة الوحي تفيد أن للإنسان كسباً وعملاً وقدرة وإرادة

0 985

السؤال

من تفسير ابن كثير تفسير آية: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) سورة الشمس، أن رجلا من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون أشيء قضي عليهم من قدر قد سبق, أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به عليهم الحجة؟ قال: "بل شيء قد قضي عليهم", قال: ففيم نعمل؟ قال: "من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها, وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، السؤال: إذا كان الله قد كتب على بعض من الناس السعادة في الآخرة ودخول الجنة وكتب على البعض الآخر الشقاوة ودخول النار من قبل أن يخلقهم وأنه ييسرهم لما كتبه الله لهم كما هو مكتوب في الحديث فكيف نقول أن الله قد عدل بين عباده ومن أسمائه العدل؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإنا نشكرك على تواصلك معنا ونهنئك بالاشتغال بمطالعة كتب العلم الشرعي، ونسأل الله تعالى ألا يزيغ قلبك بعد إذ هداك، وأن يتقبل منك وأن يثبتك على الحق ويوفقك للمزيد من الخير والعمل الصالح، وننصحك بالبعد عن الجدال والخوض في القدر، عملا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ذكر القدر فأمسكوا. رواه الطبراني وصححه الألباني.

كما ننصحك بالحرص على التخلص من الخطرات النفسية والشيطانية الشريرة فعليك بالتعوذ منها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها، فيقول كما في حديث مسلم في خطبة الحاجة: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وقد سأله أبو بكر فقال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك. رواه أبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح.

ثم إنا نربأ بك وأنت في هذا المستوى المعرفي أن يكون في كلامك ما يوهم الشك في عدالة ربك، الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، وعلمك ما لم تكن تعلم، ففكر في نفسك وانظر هل حرم الله الضالين من شيء هو لهم، أم أن الكون كله ملك لله يفعل فيه ما يشاء، فيخلق ما يشاء ويهب لمن يشاء ما يشاء، وأنه وهب عباده أهلية سلوك طريقي الخير والشر، وأنه يحاسبهم ويثيبهم أو يعاقبهم على اختيارهم وأعمالهم، أما قرأت في القرآن أنه أحكم الحاكمين؟! أما قرأت في أسمائه الحسنى أنه الحكم العدل اللطيف الخبير؟! أما علمت أن تصرف المالك في ملكه يسمى عدلا لا يسمى جورا؟! أما علمت أنه حرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين العباد.

أما درست أن من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء، بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال، وهو عدل حكيم رحيم بالبشرية، وقد دبر أمورهم بحكمة بالغة وعدل، وقسم بينهم أرزاقهم، وله أن يأمر عباده بما شاء، وينهاهم عما شاء، وأن يختار لهم ما شاء، ويعطيهم ما شاء ويمنعهم مما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده، حكيم في تدبيره لأمور خلقه، ويجب على المسلم الرضى بما قدره الله تعالى في ملكه، وأن يتذكر قول الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {الأنبياء:23}، كما قال أحدهم:

 ما للعباد عليه حق واجب   * كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا   * فبفضله وهو الكريم الواسع

ومع هذا فأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو من حكمة بالغة، وعلم واسع، وتنزه عن الظلم، كما قال الله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد {فصلت:46}، وقال تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة  {النساء:40}، وجزاء العباد بما يستحقون من تصرف المالك في ملكه وهو يسمى عدلا، والله تعالى هو أرحم الراحمين، ولم يخلق الله عباده ليعذبهم، وإنما خلق الخلق ليعبدوه، وفطرهم سبحانه على التوحيد وبين لهم السبيل وأرسل إليهم: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما {النساء:165}، وقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {الذاريات:56}، وقال تعالى: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما {النساء:147}.

ولم يؤاخذهم سبحانه قبل قيام الحجة عليهم، وقبل تبين الحق وظهوره، فإن انحرف الإنسان عما خلق من أجله وأبى إلا الشرك والكفر استحق العقاب على شركه وانحرافه بالتخليد في نار جهنم، فلا بد أن تعتقد أن الله سبحانه وتعالى عدل بين عباده وأنه لا يحاسب العبد إلا على فعله وكسبه وتصرفه، فالله تعالى قد أعطى عبده عقلا وسمعا وإدراكا وإرادة ليعرف الخير من الشر، والضار من النافع، وأعطاه إرادة ومشيئة واستطاعة واختيارا، وقدرة على العمل بما شاء تحت مشيئته وقدرته، وجعل فيه قابلية الخير والشر ليختار الطريق التي يفضلها، وقال الله تعالى: ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها {الشمس:8}، وقال تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم  {المائدة:34}، وقال تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا  {آل عمران:97}، وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها  {آل عمران:145}، وقال سبحانه: قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها {الشمس:9-10}، وقال تعالى: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا {الإنسان:3}، وقال تعالى: ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا {النبأ:39}، وقال تعالى: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة  {آل عمران:152}، وقال تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا {الإسراء:19}، وقال تعالى: إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا {الفرقان:55}،وقال تعالى: لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين {التكوير:28-29}، وقال تعالى: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا {الإنسان:29}.

وفي الحديث: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده. رواه البخاري. وحسب اختيار العبد وعمله يحاسبه الله تعالى ويجازيه عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقد كلف الله الإنسان وألزمه الأحكام باعتبار ما أعطاه من العقل والطاقات والإرادة، فإذا فقد هذه الأشياء فعجز أو أكره لم يعد مكلفا؛ بل يرفع عنه القلم، كما قال الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها {البقرة:286}، وقال تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم {البقرة:173}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم. أخرجه مسلم، وفي الحديث: تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني.

والواقع والعقل يشهد بأن الإنسان يعمل باختياره فنراه يأكل ما شاء، ويتزوج من شاء، ويعمل ما شاء، ويختار من الوظائف والمساكن والمراكب ما شاء، والله يراقب أعماله ويجازيه، قال الله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله {التوبة:105}، وقال تعالى: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون {النحل:32}، قال الشيخ الألباني: أدلة الوحي تفيد أن للإنسان كسبا وعملا وقدرة وإرادة، وبسبب تصرفه بتلك القدرة والإرادة يكون من أهل الجنة والنار. انتهى.

وعلم الله السابق بحال هذا الإنسان ومصيره وإعطاؤه القدرة على العمل وكونه قد كتب مقادير العباد لا يعني أن الله يكره العباد على فعل المعاصي والسيئات، وإنما معناه أن الله تعالى علم في الأزل ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، ثم أعطاهم مشيئة وقدرة وإرادة -كما قدمنا- فمن عصى الله فقد عصاه بمشيئته واختياره، وخالف أمره تعالى بفعله وإرادته فاستحق العقاب، ولا يقبل منه الاحتجاج بالقدر ولا اتهام بعدم العدل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: فإن الاحتجاج بالقدر باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول، وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا، فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه. انتهى.

وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى في لمعة الاعتقاد: ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقال تعالى: وخلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. وقال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا... ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن بأن الله أقام علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثه الرسل، قال الله تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحدا على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وقال تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم. وقال تعالى: اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم. فدل على أن للعبد فعلا وكسبا يجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره. انتهى.

وفي الإبانة الكبرى لابن بطة: لا ينبغي لأحد أن يتفكر ويضمر في نفسه لم ترك الله العباد حتى يجحدوه ويشركوا به ويعصوه، ثم يعذبهم على ذلك وهو قادر على هدايتهم، وهو قادر أن يمنع قلوبهم أن تدخلها شهوة شيء من معصيته، أو محبة شيء من مخالفته، وهو القادر على أن يبغض إلى الخلق أجمعين معصيته ومخالفته، وقادر على أن يهلك من هم بمعصيته مع همته، وهو قادر على أن يجعلهم كلهم على أفضل عمل عبد من أوليائه، فلم لم يفعل ذلك؟ فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل حيث لم يمنع المشركين من أن يشركوا به، ولم يمنع القلوب أن يدخلها حب شيء من معصيته، ولم يهد العباد كلهم فقد كفر، ومن قال: إن الله أراد هداية الخلق وطاعتهم له وأراد أن لا يعصيه أحد ولا يكفر أحد فلم يقدر فقد كفر، ومن قال: إن الله قدر على هداية الخلق وعصمتهم من معصيته ومخالفته فلم يفعل ذلك وهو جور من فعله فقد كفر، وهذا مما يجب الإيمان به والتسليم له، وترك الخوض فيه والمسألة عنه، وهو أن يعلم العبد أن الله عز وجل خلق الكفار وأمرهم بالإيمان وحال بينهم وبين الإيمان، وخلق العصاة وأمرهم بالطاعة وجعل حب المعاصي في قلوبهم فعصوه بنعمته، وخالفوه بما أعطاهم من قوته، وحال بينهم وبين ما أمرهم به، وهو يعذبهم على ذلك، وهم مع ذلك ملومون غير معذورين، والله عز وجل عدل في فعله ذلك بهم، وغير ظالم لهم، ولله الحجة على الناس جميعا، له الخلق والأمر تبارك وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فهذا من علم القدر الذي لا يحل البحث عنه ولا الكلام فيه، ولا التفكير فيه، وبكل ذلك مما قد ذكرته وما أنا ذاكره نزل القرآن وجاءت السنة وأجمع المسلمون من أهل التوحيد عليه، لا يرد ذلك ولا ينكره إلا قدري خبيث مشئوم قد زاغ قلبه وألحد في دين الله وكفر بالله، وسأذكر الآيات في ذلك من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.... انتهى. وراجع بقية كلام ابن بطة في الإبانة وهي موجودة على الإنترنت، فقد أطال النفس في الموضوع كثيرا.

وقال الشيخ السعدي في الدرة البهية رحمه الله تعالى ذاكرا شبهة الجبرية ومجيبا عنها: إن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة، من إثبات الأصلين: (أحدهما): الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها -أعيانها، وأوصافها، وأفعالها- بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. (والأصل الثاني): أن أفعال العباد -من الطاعات، والمعاصي،  وغيرها- واقعة بإرادتهم وقدرتهم وأنهم لم يجبروا عليها بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم من القدرة والإرادة، ويقولون لا منافاة بين الأمرين فالحوادث كلها -التي من جملتها أفعال العباد- بمشيئة الله وإرادته والعباد هم الفاعلون لأفعالهم، المختارون لها، فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها، والآخرون اختاروا فعل المعاصي وفعلوها، واختاروا ترك الأوامر فتركوها، فاستحق الأولون المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب، ولم يجبر الله أحدا منهم على خلاف مراده واختياره، فلا عذر للعاصين إذا عصوا وقالوا: إن الله قدرها علينا، فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون، وأنتم -بزيغكم وانحرافكم- أردتم الشر ففعلتموه: والله قد حذركم، وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه، وأراكم سبيل الرشد فتركتموه، وسبيل الغي فسلكتموه... انتهى.

وأما الحديث الذي ذكر السائل فصحيح وهو يدل على النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، ويدل على التبشير بعون الله لمن توجه للعمل الصالح، والإنذار بخذلانه لمن اختار طريق الشر بتيسير الشر له وإعانته عليه عقوبة له، ويشهد له ما أخرج الشيخان -واللفظ لمسلم- عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة، قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى. انتهى.

وفي الموطأ والمستدرك أن: عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم... فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار فيدخل النار. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وفي الحديث: إن الله آخذ ذرية آدم من ظهره ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا: بلى، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار. رواه البزار والطبراني عن هشام بن حكيم وصححه الألباني. وفي صحيح مسلم أن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله، بين لنا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر. وفي رواية: كل عامل ميسر لعمله. انتهى.

قال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل، والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له، لا يقدر على غيره. انتهى.

وقال ابن حجر في الفتح: وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب: لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله، قال الطيبي الجواب: من الأسلوب الحكيم منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار؛ بل هي علامات فقط. انتهى.

وقال أيضا: وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر لا يكون إلا عن كره ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له، واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه، لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما تقدم في حديث ابن مسعود وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل علامة وأمارة فيحكم بظاهر الأمر وأمر الباطن إلى الله تعالى، قال الخطابي: لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبق الكائنات رام من تمسك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطن وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر وهو العلامة اللازمة في حق العبودية وإنما هي أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة، فبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل على مصيره في الآجل، ولذلك مثل بالآيات، ونظير ذلك الرزق في الأمر بالكسب والأجل مع الإذن في المعالجة. وقال في موضع آخر: هذا الحديث إذا تأملته وجدته فيه الشفاء مما يتخالج في الضمير من أمر القدر وذلك أن القائل أفلا نتكل وندع العمل لم يدع شيئا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة ساقطة وأنه لا يشبه الأمور التي عقلت معانيها وجرت معاملة البشر فيما بينهم عليها؛ بل طوى الله علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى عنهم أمر الساعة فلا يعلم أحد متى قيامها. انتهى. وقد تقدم كلام ابن السمعاني في نحو ذلك في أول كتاب القدر. وقال غيره: وجه الانفصال عن شهبة القدرية أن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال وغيب عنا المقادير لقيام الحجة ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، فمن عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ، وفي أحاديث هذا الباب أن أفعال العباد وإن صدرت عنهم لكنهم قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره ففيها بطلان قول القدرية صريحا. والله أعلم. انتهى.

وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه: ثبت أن الله حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه، رحيم بعباده، وأنه تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل الكتب وشرع الشرائع وأمر كلا منهم أن يبلغها مته، وأنه تعالى لم يكلف أحدا إلا وسعه، رحمة منه وفضلا، فلا يكلف المجنون حتى يعقل، ولا الصغير حتى يبلغ وعذر النائم حتى يستيقظ، والناسي حتى يذكر، والعاجز حتى يستطيع ومن لم تبلغه الدعوة حتى تبلغه، رحمة منه وتعالى وإحسانا، ثم إن الله تعالى حكم عدل علي حكيم لا يظلم مثقال ذرة، جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجؤون وعليه مكرهون، وإذا فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا به من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على توفيقه، وإن عجز عن ذلك فليفوض أمره لله، وليتهم نفسه بالقصور في إدراك الحقائق فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه فإنه سبحانه هو العلي القدير الحكيم الخبير: سبحان ربك رب العزة عما يصفون* وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وليكف عن الخوض في ذلك الشأن خشية الزلل والوقوع في الحيرة، وليقنع عن رضا وتسليم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم لما حاموا حول هذا الحمى، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟ فقال لهم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. رواه البخاري. انتهى.

وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هناك مشكلة ترد على بعض الناس وهي: كيف يعاقب الله على المعاصي وقد قدرها على الإنسان؟ فأجاب قائلا: هذه في الحقيقة ليست مشكلة وهي إقدام الإنسان على العمل السيئ ثم يعاقب عليه هذه ليست مشكلة، لأن إقدام الإنسان على العمل السيئ، إقدام باختياره فلم يكن أحد شهر سيفه أمام وجهه، وقال: اعمل هذا المنكر؛ بل هو عمله باختياره والله تعالى يقول: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا. فالشاكر والكفور كلهم قد هداه الله السبيل وبينه له ووضحه له، ولكن من الناس من يختار هذا الطريق ومن الناس من لا يختاره، وتوضيح ذلك أولا بالإلزام، وثانيا بالبيان: أما الإلزام فإننا نقول للشخص: أعمالك الدنيوية وأعمالك الأخروية كلاهما سواء، ويلزمك أن تجعلهما سواء، ومن المعلوم أنه لو عرض عليك من أعمال الدنيا مشروعان أحدهما: ترى لنفسك الخير فيه، والثاني: ترى لنفسك الشر فيه، من المعلوم أنك تختار المشروع الأول الذي هو مشروع الخير، ولا يمكن أبدا بأي حال من الأحوال أن تختار المشروع الثاني وهو مشروع الشر، ثم تقول: إن القدر ألزمني به، إذا يلزمك في طريق الآخرة ما التزمته في طريق الدنيا، ونقول: جعل الله أمامك من أعمال الآخرة مشروعين: مشروعا للشر وهو الأعمال المخالفة للشرع، ومشروعا للخير وهو الأعمال المطابقة للشرع، فإذا كنت في أعمال الدنيا تختار المشروع الخيري فلماذا لا تختار المشروع الخيري في أعمال الآخرة، إنه يلزمك في عمل الآخرة أن تختار المشروع الخيري كما أنت التزمت في عمل الدنيا أن تسلك المشروع الخيري هذا طريق الإلزام.

أما طريق البيان فإننا نقول: كلنا يجهل ماذا قدر الله له، قال الله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت. فالإنسان حينما يقدم على العمل يقدم عليه باختيار منه ليس عن علم بأن الله قدره عليه وأرغمه عليه، ولهذا قال بعض العلماء: إن القدر سر مكتوم. ونحن جميعا لا نعلم أن الله قدر كذا حتى يقع ذلك العمل، فنحن إذا حينما نقدم على العمل لا نقدم عليه على أساس أنه كتب لنا أو علينا، وإنما نقدم عليه باختيار، وحينما يقع نعلم أن الله قدره علينا، ولذلك لا يقع احتجاج الإنسان بالقدر إلا بعد وقوع العمل، ولكنه لا حجة له بذلك. ويذكر عن أمير المؤمنين عمر قصة -قد تصح عنه وقد لا تصح- رفع إليه سارق تمت شروط القطع في سرقته فلما أمر أمير المؤمنين بقطع يده قال: مهلا يا أمير المؤمنين والله ما سرقت ذلك إلا بقدر الله. قال له: ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله. فاحتج عليه أمير المؤمنين بما احتج به هو على سرقته من أموال المسلمين، مع أن عمر يمكنه أن يحتج عليه بالقدر والشرع، لأنه مأمور بقطع يده، أما ذاك فلا يمكن أن يحتج إلا بالقدر إن صح أن يحتج به.

وعلى هذا فإنه لا يمكن لأي أحد أن يحتج بالقدر على معصية الله، وإنه في الواقع لا حجة فيه يقول الله عز وجل: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما. مع أن ما يعمله الناس بعد الرسل هو بقدر الله، ولو كان القدر حجة ما زالت بإرسال الرسل أبدا، بهذا يتبين لنا أثرا ونظرا أنه لا حجة للعاصي بقضاء الله وقدره، لأنه لم يجبر على ذلك. انتهى.

وسئل رحمه الله تعالى: هل الكفار مكتوب عملهم في الأزل؟ وإذا كان كذلك فكيف يعذبهم الله تعالى؟ فأجاب فضيلته بقوله: نعم الكفار مكتوب عملهم في الأزل، ويكتب عمل الإنسان أيضا عند تكوينه في بطن أمه، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه -أربعين يوما- ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. فأعمال الكفار مكتوبة عند الله عز وجل معلومة عنده، والشقي شقي عند الله عز وجل في الأزل، والسعيد سعيد عند الله في الأزل، ولكن قد يقول قائل كما قال السائل: كيف يعذبون وقد كتب الله عليهم ذلك في الأزل؟

فنقول: إنهم يعذبون لأنهم قد قامت عليهم الحجة وبين لهم الطريق، فأرسلت إليهم الرسل، وأنزلت الكتب، وبين الهدى من الضلال ورغبوا في سلوك طريق الهدى، وحذروا من سلوك طريق الضلال، ولهم عقول ولهم إرادات، ولهم اختيارات، ولهذا نجد هؤلاء الكفار وغيرهم أيضا يسعون إلى مصالح الدنيا بإرادة واختيار، ولا نجد أحدا منهم يسعى إلى شيء يضره في دنياه أو يتهاون ويتكاسل في أمر نافع له، ثم يقول: إن هذا مكتوب علي. أبدا فكل يسعى إلى ما فيه المنفعة، فكان عليهم أن يسعوا إلى ما فيه منفعة أمور دينهم كما يسعون إلى ما فيه المنفعة في أمور دنياهم، ولا فرق بينهما بل إن بيان الخير والشر في أمور الدين في الكتب المنزلة على الرسل، عليهم الصلاة والسلام، أكثر وأعظم من بيان الأمور الدنيوية، فكان عليهم أن يسلكوا الطرق التي فيها نجاتهم والتي فيها سعادتهم دون أن يسلكوا الطرق التي فيها هلاكهم وشقاؤهم.

ثم نقول: هذا الكافر حين أقدم على الكفر لا يشعر أبدا أن أحدا أكرهه، بل هو يشعر أنه فعل ذلك بإرادته واختياره، فهل كان حين إقدامه على الكفر عالما بما كتب الله له؟ والجواب: لا، لأننا نحن لا نعلم أن الشيء مقدر علينا إلا بعد أن يقع، أما قبل أن يقع فإننا لا نعلم ماذا كتب لأنه من علم الغيب. ثم نقول له: الآن أنت قبل أن تقع في الكفر أمامك شيئان: هداية وضلال، فلماذا لا تسلك طريق الهدية مقدرا أن الله كتبه لك؟ لماذا تسلك طريق الضلال ثم بعد أن تسكله تحتج بأن الله كتبه؟ لأننا نقول: لك قبل أن تدخل هذا الطريق هل عندك علم أنه مكتوب عليك؟ فسيقول: لا، ولا يمكن أن يقول: نعم، فإذا قال: لا، قلنا، إذا لماذا لم تسلك طريق الهداية وتقدر أن الله تعالى كتب لك ذلك ولهذا يقول الله عز وجل: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. ويقول عز وجل: فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى. ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه: بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار، قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له. ثم قرأ قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى.

فهذا جوابنا على هذا السؤال الذي أورده هذا السائل وما أكثر من يحتج به من أهل الضلال، وهو عجب منهم لأنهم لا يحتجون بمثل هذه الحجة على مسائل الدنيا أبدا، بل تجدهم يسلكون في مسائل الدنيا ما هو أنفع لهم، ولا يمكن لأحد أن يقال له: هذا الطريق الذي أمامك طريق وعر صعب، فيه لصوص، وفيه سباع، وهذا الطريق الثاني طريق سهل، ميسر آمن. لا يمكن لأحد أن يسلك الطريق الأول ويدع الطريق الثاني مع أن هذا نظير الطريقين: طريق النار، وطريق الجنة، فالرسل بينت طريق الجنة وقالت: هو هذا، وبينت طريق النار، وقالت: هو هذا، وحذرت من الثاني ورغبت في الأول، ومع ذلك فإن هؤلاء العصاة يحتجون بقضاء الله وقدره -وهم لا يعلمونه- على معاصيهم ومعايبهم التي فعلوها باختيارهم وليس لهم في ذلك حجة عند الله تعالى. انتهى.

وسئل رحمه الله تعالى: عن الجمع بين قول الله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. وقوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فأجاب قائلا: الجمع بينهما أن الله تعالى يخبر في بعض الآيات بأن الأمر بيده وبخبر في بعض الآيات أن الأمر راجع إلى المكلف، والجمع بين هذه النصوص أن يقال: إن للمكلف إرادة واختيارا وقدرة، وأن خالق هذه الإرادة والاختيار والقدرة هو الله عز وجل، فلا يكون للمخلوق إرادة إلا بمشيئة الله عز وجل، وقد قال الله تعالى مبينا الجمع بين هذه النصوص: لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. ولكن متى يشاء الله تعالى أن يهدي الإنسان أو أن يضله؟ هذا هو ما جاء في قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى. واقرأ قوله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين. تجد أن سبب ضلال العبد من نفسه فهو السبب، والله تعالى يخلق عند ذلك فيه إرادة للسوء لأنه هو يريد السوء، وأما من أراد الخير وسعى في الخير وحرص عليه فإن الله تعالى ييسره لليسرى، ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار، قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له. ثم قرأ هذه الآية: فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى.... إلخ.

واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن يوجد في كلام الله أو فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض ابدا، فإذا قرأت نصين ظاهرهما التناقض فأعد النظر مرة أخرى، فسيتبين لك الأمر، فإن لم تعلم فالواجب عليك التوقف وأن تكل الأمر إلى عالمه والله بكل شيء عليم. انتهى.

وراجع شفاء العليل لابن القيم، وأضواء البيان في تفسير قوله تعالى: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون {الزخرف:20}، وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5617، 2887، 4054، 20441، 21852، 49314، 52503.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة