النسخ في أحكام الشريعة له حكم عظيمة

0 491

السؤال

قال تعالى في سورة البقرة آية 187: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون. تفسير ابن كثير: هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام, فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك, فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة والرفث هو الجماع، وكان السبب في نزول هذه الآية ما روى أن أصحاب النبي إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك, فغلبته عيناه فنام, وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيه: (احل لكم ليلة الصيام الرفث...) إلى آخر الآيات ففرحوا بها فرحا شديدا، ولفظ البخاري عن البراء قال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء في رمضان كله, وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم)، وعن أبي هريرة في هذه الآية قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الأخر حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا, وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء, وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى الرسول عليه الصلاة والسلام العشاء فقام فأكل وشرب, فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأنزل الله عن ذلك (أحل لكم ليلة الصيام..), وقال ابن جرير: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر إلى الغد, فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده, فوجد امرأته قد نامت فارادها فقالت إني قد نمت, فقال ما نمت ثم وقع بها، وصنع (كعب بن مالك) مثل ذلك, فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي فأخبره, فأنزل الله (علم الله أنكم...) إلى آخر الآيات فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليلة رحمة ورخصة ورفقا، السؤال: هل كان الله عز وجل لا يعلم الغيب والضرر الذي سيحصل للمسلمين عندما وضع لهم حكما لا يتناسب معهم وعندما علم أنهم غير قادرين على تنفيذه بعد تنفيذ التجربة رخص لهم وغير الحكم، والمعرف أن القاعدة الشرعية تقول إن الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما أن الله عز وجل يعلم من سيدخل النار ومن سيدخل الجنة بعلمه المسبق للأحداث ويعلمه للمستقبل والغيبيات، كما أن دائما علماء الطب يقولون إن الصيام صحة، وكثيرا ما أجد حالات إغماء للمسلمين خصوصا في شهر رمضان وعند ذلك يفطرون المغمى عليه، حاشا لله أن يكون كذلك ولكني أريد توضيح هذه الشبهة التي تخطر على بالي؟ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن الله عز وجل متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، فهو المتصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن، قطعت بذلك الأدلة العقلية، كما نطقت به وتواترت عليه الأدلة النقلية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما ذكره السائل هو من باب النسخ والتربية .

فالنسخ في أحكام الشريعة له حكم عظيمة ذكرها أهل العلم ومن هذه الحكم: إظهار امتثال العباد أوامر الرب جل وعلا، ومنها التخفيف على العباد وهذا الغالب -كما في هذا السؤال- ومنها كذلك التدرج في الأحكام كنسخ الأحكام التي أباحت بعض الأمور التي كان عليها المسلمون إلى الحرمة، وقد ينسخ الأثقل إلى الأخف والأخف إلى الأثقل، وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفه كما هو مبين في محله.

قال العلامة الزرقاني في مناهل العرفان: وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع  إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها... على مهل متألفة -أي الشريعة- لهم متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا، منتهزة فرصة الإلف والمران والأحداث الجادة عليهم لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به ونهضة البشرية بسببه.

تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة بل على أنها أمارة القوة ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة، فقل لي بربك هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها ولو لم يتألفهم ويتلطف!!.. أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه فالتخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده وتحبيب لهم فيه وفي دينه، وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز والمنافق فيهلك ليميز الخبيث من الطيب.

وبذلك تعلم أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأن له الحكمة البالغة في تشريعه ووضع أحكامه، وبه تتضح لك الحكمة، وتزول عنك الشبهة من نسخ الحكم المذكور، وبإمكانك أن تطلع على المزيد عن هذا الموضوع في الفتوى رقم: 46644.

وأما ما ذكرته من قول الأطباء فهو صحيح مجرب، ولكنه بالنسبة للصائم القادر المقيم (غير المسافر) مصداقا لقول الله تعالى: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون {البقرة:184}، ولقوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر  {البقرة:184}، وما تجده من إغماء يصيب بعض المسلمين بسبب الصيام فإن الله تعالى لم يكلف هذا النوع من الناس بالصيام كما رأيت في الآية السابقة الذكر.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة