السؤال
بعض المشككين في الصحابة وقدرهم فى هذه الأمة يثيرون الأقوال على سيدنا عمر بن الخطاب, وذلك فى قصة صلح الحديبية, حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من سيدنا عمر بن الخطاب أن يذهب لمفاوضة قريش فأشار على الرسول صلى الله علية وسلم أن يرسل سيدنا عثمان بن عفان لأن له قرابة هناك تحميه بينما هو (سيدنا عمر) ليس له قرابة وهذه القصة لا أدري صحيحة أم لا، ولكن إن كانت صحيحة فكيف نرد ردا مؤصلا على افتراءاتهم على سيدنا عمر وهي: أولا: لماذا رفض عمر بن الخطاب أن يستمع لأمر الرسول والله يقول (وإن تطيعوة تهتدوا) وآيات أخرى كثيرة فى سورة الأحزاب مثلا (إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وهكذا.
ثانيا: نفس الموقف تقريبا تكرر في غزوة الأحزاب عندما أراد الرسول أن يرسل أحدا يستطلع خبر الأحزاب وكان الصحابة يخفون أنفسهم في الحفر حتى لا يراهم الرسول ولكنه اختار سيدنا حذيفة فقال -وهو راوي الحديث- (ما كان من طاعه رسول الله بد).
ثالثا: ماذا كان يخشى سيدنا عمر من قريش وهو في النهاية كان من أشد الناس إيمانا وحبا لله ورغبة فى الشهادة, كما أنه لم يشتهر بقتل رجال كبار من قريش في غزوتي بدر وأحد حتى تطلب قريش دمه أو الثأر منه.
رابعا: هل ظن سيدنا عمر أن الحماية لعثمان ستتحقق له من خلال قرابته وأهله المشركين في قريش, أو ليست الحماية والأمن تكون من الله وحدة سبحانه وتعالى؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا يلتفت إلى مثل هذه الترهات والشبه التي يثيرها مرضى القلوب وضعاف النفوس لينالوا بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة الطود الأشم والجبل الشامخ أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثاني، فكل هم هؤلاء هو تسميم الأجواء وتعكير المياه ليصطادوا فيها ما يظنون أنه ينقص من قدر هذا الصحابي الجليل أو غيره من الصحابة الكرام، وهيهات أن تنطلي شبهاتهم ومكائدهم على المسلمين، وإن قصة السفارة التي أشرت إليها في الحديبية رواها الإمام أحمد والطبري وحسنها الأرناؤوط وذكرها أصحاب السير والمغازي، وليس فيها ما ينقص من قدر عمر -رضي الله عنه- بل هي دليل على رجحان عقله وسداد رأيه وقوة إيمانه وطاعته المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي رواية الواقدي: وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم. وإنما أشار بعثمان لمكانته عند قريش -كما هو مبين- ولأنه يريد النجاح لمهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه بالرجل المناسب لها، فعمر رضي الله عنه لم يرفض -كما رأيت- ولن يرفض، ولكن المقام مقام سياسة ومفاوضات، فأبدى عمر رأيه مصحوبا بالأدلة المقنعة ولهذا رحب رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه فأرسل عثمان.
وكون عمر لم يقتل أحدا من قريش غير صحيح فقد قتل رجالا من زعمائهم من بينهم خاله العاص بن هشام بن المغيرة كما ذكر ذلك غير واحد من أصحاب السير والمغازي. وشدة عداوة قريش لعمر رضي الله عنه معروفة فقد كانوا يعتبرونه الرجل الثالث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ولهذا لم يسأل أبو سفيان الذي كان رئيس المشركين يوم أحد، عن غير هؤلاء الثلاثة فقط، وعندما لم يجبه أحد فرح وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا.
وأما ما وقع في غزوة الأحزاب فلا يلزم منه أن عمر سمعه أو أن الصحابة كلهم سمعوه لأنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل، وعلى افتراض أنه سمعه فإن ذلك لا ينقص من قدره ولا من قدر غيره من الصحابة الكرام لأنه كان بأسلوب العرض والترغيب والعموم فلم يخص أحدا، وإنما قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة. قال حذيفة راوي الحديث: فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم... الحديث رواه مسلم، وغيره. فسيدنا حذيفة رضي الله عنه الذي نفذ المهمة على أكمل وجه كان يستمع -كغيره- ولم يجب إلا بعد ما عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو دعا عمر أو غيره لأجاب واستجاب، ولكن ينبغي أن نعلم أن الصحابة بشر يصيبهم ما يصيب البشر ولا سيما في تلك الظروف الصعبة من ظلمة الليل وشدة البرد وقوة الرياح وتربص العدو... كما وصف الله تعالى: إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا {الأحزاب:10}، وأما كون عمر رضي الله عنه لم يستمع إلى الآيات القرآنية فهذا كلام لا قيمة له ولا يستحق الرد، فهل يعقل أن يستمع إليها هؤلاء ولا يستمع إليها عمر الذي كان وقافا عند كتاب الله، ووافق ربه في آيات كثيرة، فعمر رضي الله عنه يعلم يقينا أن الأمور كلها بيد الله تعالى والآجال مقدرة... ولكن الله تعالى جعل لكل شيء سببا وأمر بأخذ الحيطة والحذر واتخاذ الأسباب ثم بعد ذلك الاعتماد عليه سبحانه وتعالى والتسليم لقدره وقضائه، وهذا ما تعلمه عمر من كتاب الله تعالى ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عنه في أحاديث كثيرة وعمل به في واقع حياته، ولا نطيل بذكر الأمثلة من حياته رضي الله عنه بل نأخذ مثالا من حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يأخذ حذره ويعتمد على الله تعالى، ومن ذلك أنه احتمى بالمطعم بن عدي ودخل مكة في جواره بعد رحلة الطائف كما هو معروف، فالحذر والأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل.
ثم إننا ننصح السائل الكريم بأن ألا يشغل نفسه بشبهات أهل الأهواء ومرضى القلوب، فالغالب أنهم لا تنفع معهم الردود ولا يجدي فيهم الجدال والحوار، وخير ما يقابلون به الإعراض، وقد كثر هذا الصنف من الناس كثرة تجعل من يفكر في الرد على شبهاتهم يتذكر قول القائل:
لو كل عاو عوى ألقمته حجرا * لأصبح الصخر مثقالا بدينار.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم.
والله أعلم.