تنبيهات :
الأول : قال جمهور
الأشاعرة والماتريدية :
الإيمان هو التصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة أي الإذعان ، والقبول مع الرضا ، والتسليم وطمأنينة النفس لذلك ؛ تفصيلا فيما علم تفصيلا ، وإجمالا فيما علم إجمالا ، قالوا : ولا ينحط الإيمان الإجمالي عن التفصيلي من حيث الخروج عن عهدة التكليف به ، وإن كان التفصيلي أكمل من الإجمالي ، وهذا قاله بعض متأخري
الأشاعرة ، وإلا فقد قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12604أبو بكر الباقلاني في التمهيد : الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم ، والتصديق يوجد بالقلب ، قال : فإن قيل فما الدليل على ما قلتم ؟ قلنا : إجماع أهل اللغة
[ ص: 421 ] قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التصديق لا يعرفون في اللغة إيمانا غير ذلك ، ويدل على ذلك قوله - تعالى - :
وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق لنا ، فوجب أن
الإيمان في الشريعة هو الإيمان في اللغة ; لأن الله ما غير اللسان ولا قلبه . وتقدم أنه نوقش فيما قاله ، قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : وهذا حقيقة قول
جهم في مسألة الإيمان ، وقد نصر
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري هذا القول مع أنه نصر المشهور عن السلف ، مع أنه يستثني في الإيمان ، وكذلك مشى على هذا أكثر أصحابه ، وأما
أبو العباس القلانسي nindex.php?page=showalam&ids=12089وأبو علي الثقفي وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبي بكر الباقلاني صاحب
أبي الحسن ، فإنهم نصروا مذهب السلف .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13464عبد الله بن سعيد بن كلاب نفسه وهو متأخر في زمن محنة
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد - رضي الله عنه - ،
nindex.php?page=showalam&ids=14127والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما كانوا يقولون هو التصديق والقول جميعا موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين ،
nindex.php?page=showalam&ids=15741كحماد بن أبي سليمان ومن اتبعه ، وقد أنكر
على ابن كلاب ومن وافقه علماء السنة وعلماء البدعة جميعا وبدعوه ، فكيف بمن قال بالتصديق بقلبه ولم يتكلم بلسانه ، فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله :
يا أيها الذين آمنوا ، والحاصل أن الإيمان عند
المرجئة التصديق والقول ، وعند
الجهمية مجرد التصديق ، وعند
الكرامية أنه مجرد قول اللسان فقط ، وهم يقولون : المنافق مؤمن وهو مخلد في النار ; لأنه آمن ظاهرا لا باطنا ، وإنما يدخل الجنة من آمن باطنا وظاهرا ، قالوا : والدليل على شمول الإيمان له أنه يدخل في الأحكام الدنيوية المعلقة باسم الإيمان .
وهذا القول ، وإن كان من أقبح البدع وأفظعها ولم يسبقهم إليه أحد ، فقول
الجهمية أبطل منه وأبعد من الاستدلال باللغة ، والقرآن ، والعقل ،
والكرامية توافق
المرجئة والجهمية في أن
إيمان الناس كلهم سواء ولا يستثنون في الإيمان بل يقولون هو مؤمن حقا لمن أظهر الإيمان ، وإذا كان منافقا فهو مخلد في النار عندهم فإنه لا يدخل الجنة إلا من آمن باطنا وظاهرا ، ومن حكى عنهم أنهم يقولون المنافق يدخل الجنة فقد كذب عليهم ، بل يقولون : المنافق مؤمن ; لأن الإيمان هو القول الظاهر عندهم كما يسميه
[ ص: 422 ] غيرهم مسلما إذ الإسلام هو الاستسلام الظاهر كما حكاه
شيخ الإسلام ، ثم قال : ولا ريب أن قول
الجهمية أفسد من قولهم من وجوه متعددة شرعا ولغة وعقلا ، وإذا قيل قول
الكرامية قول خارج عن إجماع المسلمين ، قيل له بل السلف كفروا من يقول بقول
جهم في الإيمان ، وقد احتج الناس على فساد قول
الكرامية بحجج صحيحة ، والحجج من جنسها على فساد قول
الجهمية أكثر ، ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة ، كما فيها من نفي الإيمان عن المنافقين . وأما الإيمان بقلبه مع المعاداة المخالفة الظاهرة فهذا لم يسم قط مؤمنا ، وعند
الجهمية إذا كان العلم في قلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ، إيمانه كإيمان الصديقين ، ولا يتصور عندهم أن ينتفي عنه الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه ، وأما
المرجئة المتكلمون منهم ، والفقهاء يقولون إن
الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا ; لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه ; ولأنها دليل عليه ، ويقولون : قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1024737الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " - مجاز ، قال
شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الإيمان والإسلام :
المرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق
المرجئة كما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم لكن ذكرنا جمل أقوالهم ، ومنهم من لا يدخلها
nindex.php?page=showalam&ids=15658كالجهم بن صفوان ومن اتبعه
كالصنايجي وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه .
الثاني : من يقول مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل
الكرامية .
الثالث : تصديق القلب وقول اللسان ، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه ، والعبادة منهم ، قال
شيخ الإسلام : وهؤلاء غلطوا من وجوه : أحدها : ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد ، وأن ما وجب على شخص يجب مثله على كل شخص ، وليس الأمر كذلك بل ذلك يتفاوت ويتفاضل أشد تفاوت وتفاضل ؛ كما نبهنا على ذلك فيما مر ، فالإيمان الواجب متنوع وليس شيئا واحدا في حق جميع الناس . الثاني : من غلط
المرجئة ظنهم أن ما في القلب من الإيمان
[ ص: 423 ] ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب ، كما تقدم عن جهمية
المرجئة .
الثالث : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ; ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ، والتحقيق أن
الإيمان التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ، قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل قولهم : رجل في قلبه الإيمان مثل ما في قلب
أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ، ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان ، يقولون هذا مؤمن تمام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار ، قال سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - : ثنا
خلف بن حيان ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17119معقل بن عبيد الله العبسي ، قال : قدم
سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفورا شديدا ، منهم
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران nindex.php?page=showalam&ids=16395وعبد الكريم بن مالك ، فإنه عاهد الله أن لا يأويه وإياه سقف بيت إلا المسجد ، قال
معقل : فحججت فدخلت على
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وهو يقرأ
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قلت : إن لنا حاجة فاخل لنا . ففعل فأخبره بالإرجاء وأن ناسا أتوا به وأن الصلاة والزكاة ليستا من الدين ، فقال : أوليس الله - تعالى - يقول :
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة فالصلاة والزكاة من الدين ، وذكر من أقوالهم وزعموا أنهم انتحلوك ؟ فتبرأ منهم ، وذلك
نافع تبرأ منهم ، وكذلك
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري فقال : سبحان الله قد أخذ الناس في هذه الخصومات قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026264لا يزني الزاني وهو مؤمن " ، والجميع تبرءوا منهم ، وقالوا :
ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصاه . قال شيخ الإسلام :
المرجئة كلهم يقولون : الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان ، وأما من الدين فحكي عن بعضهم أنه يقول : ليستا من الدين ولا نفرق بين الإيمان والدين ، قال شيخ الإسلام : هذا المعروف من أقوالهم ولم أر في كتاب أحد منهم أنه قال :
[ ص: 424 ] إن الأعمال ليست من الدين ، بل يقولون ليست من الإيمان ، وكذلك حكى
أبو عبيد عمن ناظره منهم فإن
أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين فذكر قوله - تعالى - :
اليوم أكملت لكم دينكم إنها نزلت في حجة الوداع ، قال
أبو عبيد : فأخبر - تعالى - أنه أكمل الدين في آخر الإسلام في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة من أول ما نزل الوحي
بمكة حين دعا الناس إلى الإقرار . قال : حتى لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه الحجة إلى أن قال : إن الإيمان ليس بجميع الدين ، ولكن الدين ثلاثة أجزاء فالإيمان جزء ، والفرائض جزء ، والنوافل جزء . قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : هذا الذي قاله هو مذهب القوم . قال
أبو عبيد : وهذا غير ما نطق الكتاب ألا تسمع إلى قوله - تعالى - :
إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ورضيت لكم الإسلام دينا فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته وهؤلاء يزعمون أنه ثلث الدين . وسيأتي تحرير ذلك إن شاء الله - تعالى - .
ولما كان
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وكذا
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور وغيرهما من الأئمة قد عرفوا قول
المرجئة ، وهو أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه فلا يكون ذا عدد اثنين ، أو ثلاثة ، فإنه إذا كان له عدد أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه بل لا يكون إلا شيئا واحدا ، قال لهم
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد :
من زعم أن الإيمان الإقرار فيما يقول في المعرفة ؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار ؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف ؟ فإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا ومصدقا بما عرف ، فهو من ثلاثة أشياء ، وإن جحد وقال : لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق ، فقد قال قولا عظيما . قال : ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق ، وكذلك العمل مع هذه الأشياء . انتهى .
قال شيخ الإسلام : قالت
الجهمية : الإيمان شيء واحد في القلب ، وقالت
الكرامية : هو شيء واحد على اللسان ، كل ذلك فرارا من تبعيض الإيمان وتعدده فاحتج
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور عليهم بما اجتمع عليه فقهاء
المرجئة من أنه تصديق وعمل ، ولم يكن بلغه قول
[ ص: 425 ] متكلميهم وجهميتهم ، أو لم يعد خلافهم خلافا ; ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأئمة أهل علم ودين ، ولم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال ، والأفعال ، لا من بدع العقائد فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي ، نعم ، اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلافه ، ولا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم إلى ظهور الفسوق ، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد ، والأعمال . فلهذا أعظم القول في ذم الإرجاء حتى قال
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي : لفتنتهم - يعني
المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة
الأزارقة . يعني
الخوارج .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي : كان
nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16101شريك القاضي :
المرجئة أخبث قوم ، حسبك
بالرافضة خبثا ، ولكن
المرجئة يكذبون على الله . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : تركت
المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع :
المرجئة الذين يقولون الإقرار يجزي عن العمل ، ومن قال هذا فقد هلك ، ومن قال : النية تجزي من العمل فهو كفر ، وهو قول
جهم .
وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد - رضي الله عنه - : إنه كفر . وقال
قتادة : إنما حدث الإرجاء بعد فرقة
nindex.php?page=showalam&ids=12582ابن الأشعث . وقال
أيوب السخيتاني : أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من
بني هاشم يقال له
الحسن . وقال
زاذان : مر بنا
الحسن بن محمد فقلنا ما هذا الكتاب الذي وضعت ؟ وكان هو الذي أخرج كتاب
المرجئة ، فقال لي : يا
أبا عمر لوددت أني مت قبل أن أخرج هذا الكتاب ، أو أضع هذا الكتاب . فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذا كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان ، والإسلام ، والكفر ، والنفاق . وحاصل قول غلاة
المرجئة أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة لا يضر مع الإيمان معصية .
[ ص: 426 ] وهذا شر قول قيل في الإسلام ، والله - تعالى - الموفق .
وحاصل ذلك قوله إن للناس في الإيمان أقوالا خمسة ، منها ثلاثة بسيطة واثنان مركب ، فأما البسيطة فالتصديق وحده أو القول وحده أو العمل وحده ، الأول مذهب
جهم ومن وافقه من
الأشاعرة وغيرهم ، والثاني قول
الكرامية ، والثالث عزاه
الكرماني في شرح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري للمعتزلة ولعله لبعضهم . وأما المركب فقسمان ثنائي وهو قول
الحنفية ومن وافقهم ، فإنهم قالوا : إنه مركب من التصديق والقول وثلاثي التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، وهذا مذهب سلف الأمة .