الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
تنبيهات :

الأول : قال جمهور الأشاعرة والماتريدية : الإيمان هو التصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة أي الإذعان ، والقبول مع الرضا ، والتسليم وطمأنينة النفس لذلك ؛ تفصيلا فيما علم تفصيلا ، وإجمالا فيما علم إجمالا ، قالوا : ولا ينحط الإيمان الإجمالي عن التفصيلي من حيث الخروج عن عهدة التكليف به ، وإن كان التفصيلي أكمل من الإجمالي ، وهذا قاله بعض متأخري الأشاعرة ، وإلا فقد قال القاضي أبو بكر الباقلاني في التمهيد : الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم ، والتصديق يوجد بالقلب ، قال : فإن قيل فما الدليل على ما قلتم ؟ قلنا : إجماع أهل اللغة [ ص: 421 ] قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التصديق لا يعرفون في اللغة إيمانا غير ذلك ، ويدل على ذلك قوله - تعالى - : وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق لنا ، فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان في اللغة ; لأن الله ما غير اللسان ولا قلبه . وتقدم أنه نوقش فيما قاله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهذا حقيقة قول جهم في مسألة الإيمان ، وقد نصر أبو الحسن الأشعري هذا القول مع أنه نصر المشهور عن السلف ، مع أنه يستثني في الإيمان ، وكذلك مشى على هذا أكثر أصحابه ، وأما أبو العباس القلانسي وأبو علي الثقفي وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ القاضي أبي بكر الباقلاني صاحب أبي الحسن ، فإنهم نصروا مذهب السلف .

وقال عبد الله بن سعيد بن كلاب نفسه وهو متأخر في زمن محنة الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما كانوا يقولون هو التصديق والقول جميعا موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين ، كحماد بن أبي سليمان ومن اتبعه ، وقد أنكر على ابن كلاب ومن وافقه علماء السنة وعلماء البدعة جميعا وبدعوه ، فكيف بمن قال بالتصديق بقلبه ولم يتكلم بلسانه ، فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله : يا أيها الذين آمنوا ، والحاصل أن الإيمان عند المرجئة التصديق والقول ، وعند الجهمية مجرد التصديق ، وعند الكرامية أنه مجرد قول اللسان فقط ، وهم يقولون : المنافق مؤمن وهو مخلد في النار ; لأنه آمن ظاهرا لا باطنا ، وإنما يدخل الجنة من آمن باطنا وظاهرا ، قالوا : والدليل على شمول الإيمان له أنه يدخل في الأحكام الدنيوية المعلقة باسم الإيمان .

وهذا القول ، وإن كان من أقبح البدع وأفظعها ولم يسبقهم إليه أحد ، فقول الجهمية أبطل منه وأبعد من الاستدلال باللغة ، والقرآن ، والعقل ، والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء ولا يستثنون في الإيمان بل يقولون هو مؤمن حقا لمن أظهر الإيمان ، وإذا كان منافقا فهو مخلد في النار عندهم فإنه لا يدخل الجنة إلا من آمن باطنا وظاهرا ، ومن حكى عنهم أنهم يقولون المنافق يدخل الجنة فقد كذب عليهم ، بل يقولون : المنافق مؤمن ; لأن الإيمان هو القول الظاهر عندهم كما يسميه [ ص: 422 ] غيرهم مسلما إذ الإسلام هو الاستسلام الظاهر كما حكاه شيخ الإسلام ، ثم قال : ولا ريب أن قول الجهمية أفسد من قولهم من وجوه متعددة شرعا ولغة وعقلا ، وإذا قيل قول الكرامية قول خارج عن إجماع المسلمين ، قيل له بل السلف كفروا من يقول بقول جهم في الإيمان ، وقد احتج الناس على فساد قول الكرامية بحجج صحيحة ، والحجج من جنسها على فساد قول الجهمية أكثر ، ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة ، كما فيها من نفي الإيمان عن المنافقين . وأما الإيمان بقلبه مع المعاداة المخالفة الظاهرة فهذا لم يسم قط مؤمنا ، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ، إيمانه كإيمان الصديقين ، ولا يتصور عندهم أن ينتفي عنه الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه ، وأما المرجئة المتكلمون منهم ، والفقهاء يقولون إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا ; لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه ; ولأنها دليل عليه ، ويقولون : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " - مجاز ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الإيمان والإسلام : المرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم لكن ذكرنا جمل أقوالهم ، ومنهم من لا يدخلها كالجهم بن صفوان ومن اتبعه كالصنايجي وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه .

الثاني : من يقول مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية .

الثالث : تصديق القلب وقول اللسان ، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه ، والعبادة منهم ، قال شيخ الإسلام : وهؤلاء غلطوا من وجوه : أحدها : ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد ، وأن ما وجب على شخص يجب مثله على كل شخص ، وليس الأمر كذلك بل ذلك يتفاوت ويتفاضل أشد تفاوت وتفاضل ؛ كما نبهنا على ذلك فيما مر ، فالإيمان الواجب متنوع وليس شيئا واحدا في حق جميع الناس . الثاني : من غلط المرجئة ظنهم أن ما في القلب من الإيمان [ ص: 423 ] ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب ، كما تقدم عن جهمية المرجئة .

الثالث : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ; ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ، والتحقيق أن الإيمان التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل قولهم : رجل في قلبه الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ، ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان ، يقولون هذا مؤمن تمام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار ، قال سيدنا الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - : ثنا خلف بن حيان ثنا معقل بن عبيد الله العبسي ، قال : قدم سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفورا شديدا ، منهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك ، فإنه عاهد الله أن لا يأويه وإياه سقف بيت إلا المسجد ، قال معقل : فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وهو يقرأ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قلت : إن لنا حاجة فاخل لنا . ففعل فأخبره بالإرجاء وأن ناسا أتوا به وأن الصلاة والزكاة ليستا من الدين ، فقال : أوليس الله - تعالى - يقول : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة فالصلاة والزكاة من الدين ، وذكر من أقوالهم وزعموا أنهم انتحلوك ؟ فتبرأ منهم ، وذلك نافع تبرأ منهم ، وكذلك الزهري فقال : سبحان الله قد أخذ الناس في هذه الخصومات قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزني الزاني وهو مؤمن " ، والجميع تبرءوا منهم ، وقالوا : ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصاه . قال شيخ الإسلام : المرجئة كلهم يقولون : الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان ، وأما من الدين فحكي عن بعضهم أنه يقول : ليستا من الدين ولا نفرق بين الإيمان والدين ، قال شيخ الإسلام : هذا المعروف من أقوالهم ولم أر في كتاب أحد منهم أنه قال : [ ص: 424 ] إن الأعمال ليست من الدين ، بل يقولون ليست من الإيمان ، وكذلك حكى أبو عبيد عمن ناظره منهم فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين فذكر قوله - تعالى - : اليوم أكملت لكم دينكم إنها نزلت في حجة الوداع ، قال أبو عبيد : فأخبر - تعالى - أنه أكمل الدين في آخر الإسلام في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة من أول ما نزل الوحي بمكة حين دعا الناس إلى الإقرار . قال : حتى لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه الحجة إلى أن قال : إن الإيمان ليس بجميع الدين ، ولكن الدين ثلاثة أجزاء فالإيمان جزء ، والفرائض جزء ، والنوافل جزء . قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : هذا الذي قاله هو مذهب القوم . قال أبو عبيد : وهذا غير ما نطق الكتاب ألا تسمع إلى قوله - تعالى - : إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ورضيت لكم الإسلام دينا فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته وهؤلاء يزعمون أنه ثلث الدين . وسيأتي تحرير ذلك إن شاء الله - تعالى - .

ولما كان الإمام أحمد وكذا أبو ثور وغيرهما من الأئمة قد عرفوا قول المرجئة ، وهو أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه فلا يكون ذا عدد اثنين ، أو ثلاثة ، فإنه إذا كان له عدد أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه بل لا يكون إلا شيئا واحدا ، قال لهم الإمام أحمد : من زعم أن الإيمان الإقرار فيما يقول في المعرفة ؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار ؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف ؟ فإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا ومصدقا بما عرف ، فهو من ثلاثة أشياء ، وإن جحد وقال : لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق ، فقد قال قولا عظيما . قال : ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق ، وكذلك العمل مع هذه الأشياء . انتهى .

قال شيخ الإسلام : قالت الجهمية : الإيمان شيء واحد في القلب ، وقالت الكرامية : هو شيء واحد على اللسان ، كل ذلك فرارا من تبعيض الإيمان وتعدده فاحتج أبو ثور عليهم بما اجتمع عليه فقهاء المرجئة من أنه تصديق وعمل ، ولم يكن بلغه قول [ ص: 425 ] متكلميهم وجهميتهم ، أو لم يعد خلافهم خلافا ; ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأئمة أهل علم ودين ، ولم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال ، والأفعال ، لا من بدع العقائد فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي ، نعم ، اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلافه ، ولا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم إلى ظهور الفسوق ، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد ، والأعمال . فلهذا أعظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي : لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة . يعني الخوارج .

وقال الزهري : ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء . وقال الأوزاعي : كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء . وقال شريك القاضي : المرجئة أخبث قوم ، حسبك بالرافضة خبثا ، ولكن المرجئة يكذبون على الله . وقال سفيان الثوري : تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري . وقال وكيع : المرجئة الذين يقولون الإقرار يجزي عن العمل ، ومن قال هذا فقد هلك ، ومن قال : النية تجزي من العمل فهو كفر ، وهو قول جهم .

وكذا قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - : إنه كفر . وقال قتادة : إنما حدث الإرجاء بعد فرقة ابن الأشعث . وقال أيوب السخيتاني : أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له الحسن . وقال زاذان : مر بنا الحسن بن محمد فقلنا ما هذا الكتاب الذي وضعت ؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة ، فقال لي : يا أبا عمر لوددت أني مت قبل أن أخرج هذا الكتاب ، أو أضع هذا الكتاب . فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذا كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان ، والإسلام ، والكفر ، والنفاق . وحاصل قول غلاة المرجئة أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة لا يضر مع الإيمان معصية .

[ ص: 426 ] وهذا شر قول قيل في الإسلام ، والله - تعالى - الموفق .

وحاصل ذلك قوله إن للناس في الإيمان أقوالا خمسة ، منها ثلاثة بسيطة واثنان مركب ، فأما البسيطة فالتصديق وحده أو القول وحده أو العمل وحده ، الأول مذهب جهم ومن وافقه من الأشاعرة وغيرهم ، والثاني قول الكرامية ، والثالث عزاه الكرماني في شرح البخاري للمعتزلة ولعله لبعضهم . وأما المركب فقسمان ثنائي وهو قول الحنفية ومن وافقهم ، فإنهم قالوا : إنه مركب من التصديق والقول وثلاثي التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، وهذا مذهب سلف الأمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية