ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان; فإنه أكيد ، لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل ، فنقول وبالله التوفيق :
إن
لفظ : " أهل الأهواء " ، وعبارة : " أهل البدع " ; إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها ، وقدموا فيها شريعة الهوى; بالاستنباط ، والنصر لها ، والاستدلال على صحتها في زعمهم ، حتى عد خلافهم خلافا ، وشبههم منظورا فيها ، ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها; كما نقول في ألقاب الفرق من
المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنبط لها وناصر لها وذاب عنها; كلفظ : "
أهل السنة " ; إنما يطلق على ناصريها ، وعلى من استنبط على وفقها ، والحامين لذمارها .
ويرشح ( ذلك ) أن قول الله تعالى : )
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ; يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو
[ ص: 213 ] التفريق ، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه ، وكذلك قوله تعالى : )
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) .
وقوله : )
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) ، فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيرهم .
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005281حتى إذا لم يبق عالم; اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها . بخلاف العوام ، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم ، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ، ولا هم متبعون للهوى ، وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان ، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا .
وعند ذلك يتعين للفظ " أهل الأهواء " و " أهل البدع " مدلول واحد ، وهو : أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره ، وأما أهل الغفلة عن ذلك ، والسالكون سبل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر; فلا .
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به .
فالمقتدي به; كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء; لأنه في حكم المتبع .
والمبتدع هو المخترع ، أو المستدل على صحة ذلك الاختراع ، وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم ، أو كان
[ ص: 214 ] من قبيل الاستدلال العامي ، فإن الله سبحانه ذم أقواما قالوا : )
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ، فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي ، وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ، وقد كانوا على هذا الدين ، وليس إلا لأنه صواب ، فنحن عليه; لأنه لو كان خطأ ، لما ذهبوا إليه .
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل .
ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة; من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطراح ما سواه ، فمن أخذ به ، فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ، ودخل في مسمى أهل ( الابتداع ) ، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ، ويبحث ، ويتأنى ، ويسأل ، حتى يتبين الحق له فيتبعه ، أو الباطل فيجتنبه .
ولذلك قال تعالى ردا على المحتجين بما تقدم : )
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) ، وفي الآية الأخرى : )
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) ، فقال تعالى : )
أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ، وفي الآية الأخرى : )
أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) ، وأمثال ذلك كثيرة .
[ ص: 215 ] وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ، ويتعصب لما هو عليه; غير ملتفت إلى غيره ، وهو عين اتباع الهوى ، فهو المذموم حقا . وعليه يحصل الإثم ، فإن من كان مسترشدا; مال إلى الحق حيث وجده ، ولم يرده ، وهو المعتاد في طالب الحق ، ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تبين لهم الحق .
فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ، ولم يدخل مع المتعاصين ، لكنه عمل بها :
فإن قلنا : إن أهل الفترة معذبون على الإطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم ،
فالمتبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقا مؤاخذون أيضا . وإن قلنا : لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤخذون ما لم يكن فيه محق ، فإذ ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين : إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه . وإما أن لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة ( أهل الأهواء ) فيأثمون .
وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي اشتهرت عند العلماء; مقلدا فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها; فهو في الإثم مع من اتبع ، فقد زعم أن معبوده في صورة الإنسان ، وأنه يهلك كله إلا وجهه ، ثم زعم
[ ص: 216 ] أن روح الإله حل في
علي ثم في فلان ، ثم في فلان . . . . . ثم في بيان نفسه .
وكذلك من اتبع
المغيرة بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يحيي الموتى بالاسم الأعظم ، وأن لمعبوده أعضاء على حروف الهجاء ، على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن . . . . . . إلى إلحادات أخر .
وكذلك من اتبع
المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع
المغرب ، فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرا لها ومحتجا عليها .
وقانا الله شر التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته .