الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون : مجتهدا فيها ، أو مقلدا .

                        والمقلد : إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر ، وإما مقلد له فيه من غير نظر ، كالعامي الصرف .

                        فهذه ثلاثة أقسام :

                        فالقسم الأول على ضربين :

                        أحدهما : أن يصح كونه مجتهدا ، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات ، وإنما تسمى غلطة أو زلة; لأن صاحبها لم يقصد [ ص: 194 ] اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب; أي : لم يتبع هواه ، ولا جعله عمدة ، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق; أذعن له وأقر به .

                        ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أنه كان يقول بالإرجاء ، ثم رجع عنه ، وقال : " وأول ما أفارق غير شاك أفارق ما يقول المرجئون " .

                        وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير; قال : " كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس " .

                        قال : " فمررنا على المدينة ، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم [ وهو ] جالس إلى سارية - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                        قال : " وإذا هو قد ذكر الجهنميين " .

                        قال : " فقلت له : يا صاحب رسول الله ! ما هذا الذي تحدثون والله يقول : إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) ، و كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) فما هذا الذي تقولون ؟ !

                        قال : فقال : " أفتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم ، قال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم ؟ يعني : الذي يبعثه الله فيه ، قلت : نعم ، قال : فإنه مقام محمد [ ص: 195 ] صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج " .

                        قال : " ثم نعت وضع الصراط ومرر الناس عليه " .

                        قال : " وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك " .

                        قال : " غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها " .

                        قال : " يعني : فيخرجون كأنهم عيدان السماسم ، فيدخلون نهرا من أنهار الجنة ، فيغتسلون فيه ، فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا ، وقلنا : ويحكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فرجعنا ، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد " ، أو كما قال .

                        ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث ، وثقه ابن معين وأبو زرعة ، وقال أبو حاتم : " صدوق " ، وخرج عنه البخاري .

                        وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث ، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة ; إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكي عنه من أنه كان يقول بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب ، حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره .

                        وحكى القتيبي عنه : كان يقول : " إن القرآن يدل على الاختلاف ، فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب ، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب ، ومن قال بهذا فهو مصيب; لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين " .

                        وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الإجبار ؟ قال : " كل مصيب ، هؤلاء قوم عظموا الله ، وهؤلاء قوم نزهوا الله " .

                        [ ص: 196 ] قال : " وكذلك القول في الأسماء ، فكل من سمى الزاني مؤمنا ، فقد أصاب ، ومن سماه كافرا; فقد أصاب ، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ، ومن قال هو كافر وليس بمشرك; فقد أصاب; لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني " .

                        قال : " وكذلك السنن المختلفة ، كالقول بالقرعة وخلافه ، والقول بالسعاية وخلافه ، وقتل المؤمن بالكافر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب " .

                        قال : " ولو قال قائل : إن القاتل في النار ، كان مصيبا ، ولو قال : في الجنة ، كان مصيبا ، ولو وقف وأرجأ أمره; كان مصيبا ، إذا كان إنما يريد بقوله إن الله تعبده بذلك ، وليس عليه علم الغيب " .

                        قال ابن أبي خيثمة : أخبرني سليمان بن أبي شيخ ، قال : " كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريق العنبري البصري اتهم بأمر عظيم ، وروي عنه كلام رديء " .

                        قال بعض المتأخرين : هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب ، وقال : " إذا أرجع وأنا من الأصاغر ، ولأن أكون ذنبا في الحق ، أحب إلي أن أكون رأسا في الباطل " . اهـ .

                        فإن ثبت عنه ما قيل فيه; فهو على جهة الزلة من العالم ، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق; لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه ، ولم يتبع عقله ، ولا صادم الشرع بنظره ، فهو أقرب من مخالفة الهوى ، ومن ذلك الطريق والله [ ص: 197 ] أعلم وفق إلى الرجوع إلى الحق .

                        وكذلك يزيد الفقير فيما ذكره عنه ، لا كما عارض الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، إذ طالبهم بالحجة ، فقال بعضهم : لا تخاصموه; فإنه ممن قال الله فيه : بل هم قوم خصمون ) ، فرجحوا المتشابه على المحكم ، وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم .

                        [ الثاني : ] وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين ; فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم ، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوى الباعث عليه في الأصل ، وهو التبعية ، إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء ، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه ، ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد ، حتى قال الصوفية : حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين ! فكيف إذا انضاف إليه الهوى من أصل ، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل في ظنه شرعي على صحة ما ذهب إليه ؟ ! فيتمكن الهوى من قلبه تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه ، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه; كما جاء في حديث الفرق ، فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سن سنة سيئة .

                        ومن أمثلته أن الإمامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي صلى الله عليه وسلم ، وتزعم أنه مثل النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة ، بناء على أصل متوهم ، فوضعوه على أن الشريعة أبدا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع [ ص: 198 ] المكلفين ، إما بالمشافهة ، أو بالنقل ممن شافه المعصوم ، وإنما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادي الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي ، بل بشبهة زعموا أنها عقلية ، وشبه من النقل باطلة ، إما في أصلها ، وإما في تحقيق مناطها .

                        وتحقيق ما يدعون وما يرد عليهم به مذكور في كتب الأئمة ، وهو يرجع في الحقيقة إلى دعاو ، وإذا طولبوا بالدليل عليها; سقط في أيديهم ، إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات .

                        وأقوى شبههم مسألة اختلاف الأمة ، وأنه لا بد من واحد يرتفع به الخلاف; لأن الله يقول : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ، ولا يكون كذلك إلا إذا أعطي العصمة كما أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه وارث ، وإلا فكل محق أو مبطل يدعي أنه المرحوم ، وأنه الذي وصل إلى الحق دون من سواه ، فإن طولبوا بالدليل على العصمة; لم يأتوا بشيء .

                        غير أن لهم مذهبا يخفونه ولا يظهرونه إلا لخواصهم ، لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان .

                        قال ابن العربي في كتاب " العواصم " :

                        " خرجت من بلادي على الفطرة ، فلم ألق في طريقي إلا مهتديا ، حيث بلغت هذه الطائفة يعني : الإمامية والباطنية من فرق الشيعة فهي أول بدعة لقيت ، ولو فجأتني بدعة مشبهة ، كالقول بالمخلوق ، أو نفي [ ص: 199 ] الصفات ، أو الإرجاء; لم آمن ، فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر ، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ، ولبثت بينهم ثمانية أشهر .

                        ثم خرجت إلى الشام ، فوردت بيت المقدس ، فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين مدرسة الشافعية بباب الأسباط ، وأخرى للحنفية وكان فيها من رءوس العلماء ورءوس المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير ، فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة .

                        ثم نزلت إلى الساحل لأغراض ، وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية ، فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر ، ونزلت عكا ، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي ، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي .

                        فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين ، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ، ولع بي ، وفيهم لعمر الله ، وإن كانوا على باطل انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ، فكان لا يفارقني ، ويساومني الجدال ، ولا يفاترني ، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعميم من المعصوم بما يطول ذكره .

                        ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن لله في عباده أسرارا وأحكاما ، والعقل لا يستقل بدركها ، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم ! فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد ؟ فقال [ ص: 200 ] لي : مات وليس هذا بمذهبه ، ولكنه تستر معي . فقلت : هل خلفه أحد ؟ فقال : خلفه وصيه علي ، قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه ؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند ، قلت : فهل أنفذه حين قدر ؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت; إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى ، فلم يمكن إلا المدارة; لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال ، قلت : وهذه المدارة حق أم لا ؟ فقال : باطل أباحته الضرورة ، قلت : فأين العصمة ؟ [ قال : ] إنما تغني العصمة مع القدرة . قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا ؟ قال : لا . قلت : فالدين مهمل ، والحق مجهول مخمل ؟ قال : سيظهر . قلت : بمن ؟ قال : بالإمام المنتظر . قلت : لعله الدجال ، فما بقي أحد إلا ضحك .

                        وقطعنا الكلام على غرض مني; لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده .

                        ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام : أن الإمام إذا أوعز إلى من لا قدرة له; فقد ضيع; فلا عصمة له .

                        وأعجب منه أن الباري تعالى على مذهبه إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم ، وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم ، فكأنه ما علمه وما بعثه . وهذا عجز منه وجور ، لا سيما على مذهبهم ! .

                        فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة .

                        وشاع الحديث ، فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي ، فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي ، وقال : إن [ ص: 201 ] رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك ، فقلت : أنا مشغول . فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه ، وهو محرس الطبرانيين ، مسجد في قصر على البحر ، وتحامل علي ، فقمت ما بين حشمة وحسبة ، ودخلت قصر المحرس ، وطلعنا إليه ، فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية ، فرأيت النكر في وجوههم ، فسلمت ثم قصدت جهة المحراب ، فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم .

                        فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم ، إن كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا ، ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس ، فأقول : هذا قبري الذي يدفنوني فيه ، وأنشد في سري :


                        ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان

                        وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذني الله منها .

                        فلما سلمت ، استقبلتهم ، وسألتهم عن أحوالهم عادة ، وقد اجتمعت إلي نفسي ، وقلت : أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين .

                        فقال لي أبو الفتح وأشار إلى فتى حسن الوجه : هذا سيد الطائفة ومقدمها ، فدعوت له ، فسكت ، فبادرني وقال : قد بلغتني مجالسك وأنهي إلي كلامك ، وأنت تقول : قال الله وفعل ! فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه ؟ ! أخبرني واخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة ، وقد احتد نفسا ، وامتلأ غيظا ، وجثا على ركبتيه ، ولم أشك أنه [ ص: 202 ] لا يتم الكلام إلا وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب .

                        فعمدت بتوفيق الله إلى كنانتي ، واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه ، فسقط لليدين وللفم .

                        وشرح ذلك أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال :

                        كنت أبغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام ، فدخلت يوما إلى الري ، ودخلت جامعها أول دخولي ، واستقبلت سارية أركع عندها ، وإذا بجواري رجلان يتذاكران علم الكلام ، فتطيرت بهما ، وقلت : أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره ، وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما ، فعلق بي من قولهما : إن هؤلاء الباطنية أسخف خلق الله عقولا ، وينبغي للنحرير أن لا يتكلف لهم دليلا ، ولكن يطالبهم بـ " لم " ، فلا قبل لهم بها ، وسلمت مسرعا .

                        وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من الإسماعيلية القناع في الإلحاد ، وجعل يكاتب وشمكير الأمير يدعوه إليه ويقول له : إني لا أقبل دين محمد إلا بالمعجزة ، فإن أظهرتموها; رجعنا إليكم .

                        وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنة ، فورد على وشمكير رسولا ، فقال له : إنك أمير ، ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العوام ولا تقلد في عقيدتها ، وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين .

                        [ ص: 203 ] فقال وشمكير : اختر رجلا من أهل مملكتي ، ولا أنتدب للمناظرة بنفسي ، فيناظرك بين يدي . فقال له الملحد : أختار أبا بكر الإسماعيلي . لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد ، وإنما كان إماما في الحديث ، ولكن كان وشمكير بعامية فيه ( يعتقد ) أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم فقال وشمكير : ذلك مرادي ، فإنه رجل جيد .

                        فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بجرجان ليرحل إليه إلى غزنة ، فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين ، وقال : سيبهت الإسماعيلي الكافر مذهبا الإسماعيلي الحافظ مذهبا ، ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك; لئلا يتهمهم ، فلجئوا إلى الله في نصر دينه .

                        قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جاءني البريد ، وأخذت في المسير ، وتدانت لي الدار; قلت : إنا لله ، وكيف أناظر فيما لا أدري ؟ ! هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ويعلم بحجج الله على دينه ؟ ! ندمت على ما سلف من عمري إذ لم أنظر في شيء من علم الكلام .

                        ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري ، فقويت نفسي ، وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي ، وبلغت البلد ، فتلقاني الملك ، ثم جميع الخلق ، وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب ، وقال الملك للباطني : أذكر قولك يسمعه الإمام ، فلما أخذ في ذكره واستوفاه; قال له الحافظ : لم ؟ سمعها الملحد; قال : هذا إمام قد عرف مقالتي; فبهت .

                        قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت ، وأمرت بقراءة علم الكلام ، وعلمت أنه عمدة من عمد الإسلام .

                        [ ص: 204 ] قال ابن العربي : " وحين انتهى به الأمر إلى ذلك المقام; قلت : إن كان في الأجل نفس ، فهذا شبيه بيوم الإسماعيلي .

                        فوجهت إلى أبي الفتح الإمام ، وقلت له : لقد كنت في لا شيء ، ولو خرجت من عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم; ما رحلت إلا عريا عن نادرة الأيام; وانظر إلى حذقه بالكلام ومعرفته ، حيث قال لي : أي شيء هو الله ؟ ولا يسأل بمثل هذا إلا مثله ، ولكن بقيت هاهنا نكتة لا بد من أن نأخذها اليوم عنه ، وتكون ضيافتنا عنده : لم قلت : أي شيء هو الله ، فاقتصرت من حروف الاستفهام على أي ، وتركت الهمزة وهل وكيف وأنى وكم وما ، هي أيضا من ثواني حروف الاستفهام ، وعدلت عن اللام من حروفه ؟ ! وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية ، وهو أن لـ " أي " معنيين في الاستفهام ، فأي المعنيين قصدت بها ؟ ولم سألت بحرف محتمل ؟ ولم تسأل بحرف مصرح بمعنى واحد ؟ هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا .

                        فما هو إلا أن افتتحت هذا الكلام ، وانبسطت فيه ، وهو يتغير; حتى اصفر آخرا من الوجل ، كما اسود أولا من الحقد . ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه ، وقال له : ما هذا الصبي إلا بحر زاخر من العلم ، ما رأينا مثله قط ، وهم ما رأوا واحدا به رمق ( إلا أهلكوه ) ، لأن الدولة لهم ، ولولا مكاننا من رفعة دولة ملك الشام وأن والي عكا كان يحضرنا; ما تخلصت منهم في العادة أبدا .

                        [ ص: 205 ] وحين سمعت تلك الكلمة من إعظامي ، قلت : هذا مجلس عظيم ، وكلام طويل ، يفتقر إلى تفصيل ، ولكن نتواعد إلى يوم آخر ، وقمت وخرجت ، فقاموا كلهم معي ، وقالوا : لا بد أن تبقى قليلا . فقلت : لا . وأسرعت حافيا ، وخرجت على الباب أعدو ، حتى أشرفت على قارعة الطريق ، وبقيت هناك مبشرا نفسي بالحياة ، حتى خرجوا بعدي ، وأخرجوا لي ( لايكي ) ، ولبستها ، ومشيت معهم متضاحكا ، ووعدوني بمجلس آخر ، فلم أوف لهم ، وخفت وفاتي في وفائي " .

                        قال ابن العربي : " وقد قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى : إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة ، فشكا إليه فساد الخلق ، وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر ، فقال نصر : هل لخروجه ميقات أم لا ؟ قال الشيعي : نعم ، قال له أبو الفتح : ومعلوم هو أو مجهول ؟ قال : معلوم . قال نصر : ومتى يكون ؟ قال : إذا فسد الخلق . قال أبو الفتح : فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم ، فلو فسدتم لخرج; فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا; فبهت .

                        وأظنه سمعها عن شيخه أبي الفتح سليمان بن أيوب الرازي الزاهد .

                        انتهى ما حكاه ابن العربي وغيره ، وفيه غنية لمن عرج عن تعرف أصولهم ، وفي أثناء الكتاب منه أمثلة كثيرة .

                        القسم الثاني : يتنوع أيضا :

                        [ ص: 206 ] وهو الذي لم يستنبط بنفسه ، وإنما اتبع غيره من المستنبطين ، لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها ، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه; لانقداحها في قلبه ، فهو مثل الأول ، وإن لم يصر إلى تلك الحال ، ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى .

                        وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ، ولو على أعم ما يكون ، فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وإن كان عاميا ، لأنه عرض للاستدلال وهو عالم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ، ومع ذلك; فلا يبلغ من استدل بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل وفرق بينهما في التمثيل .

                        إن الأول : أخذ شبهات مبتدعة ، فوقف وراءها ، حتى إذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم ، تبلد وانقطع ، أو خرج إلى ما لا يعقل .

                        وأما الثاني : فحسن الظن بصاحب البدعة ، فتبعه ، ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به ، إلا تحسين الظن بالمبتدع خاصة ، وهذا القسم في العوام كثير .

                        فمثال الأول حال حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة ، إذ كان أحد دعاة الباطنية ، فاستجاب له جماعة نسبوا إليه .

                        وكان رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد ، فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه ، فقال له حمدان وهو لا يعرفه : أراك سافرت عن موضع بعيد فأين مقصدك ؟ فذكر موضعا هو قرية حمدان ، فقال له حمدان : اركب بقرة من هذا البقر لتستريح [ ص: 207 ] به عن تعب المشي ، فلما رآه مائلا إلى الديانة ، أتاه من ذلك الباب ، وقال : إني لم أومر بذلك ، فقال له : وكأنك لا تعمل إلا بأمر ؟ فقال : نعم ، فقال حمدان : وبأمر من تعمل ؟ قال : بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة ، قال : ذلك هو رب العالمين ، قال : صدقت ، ولكن الله يهب ملكه من يشاء . قال : وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها ؟ فقال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ، وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب ، فقال له حمدان : أنقذني أنقذك الله ، وأفض علي من العلم ما تحييني ، فما أشد احتياجي لمثل ما ذكرته ! فقال له : وما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه ، فقال : فما عهدك ؟ فاذكره فإني ملتزم له . فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضا .

                        فالتزم حمدان عهده ، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله ، حتى استدرجه واستغواه ، واستجاب له في جميع ما ادعاه ، ثم انتدب للدعوة ، وصار أصلا من أصول هذه البدعة ، فسمي أتباعه القرامطة .

                        ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) ، الآية ، وقوله تعالى : ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) .

                        [ ص: 208 ] وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية ، وكان يشار إليه بالعلم والفهم ، فبلغ خبره أحمد بن طولون ، فاستحضره ، وسأله عن أشياء كثيرة ، من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد حضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ، فسألوه عن ذلك ؟

                        فقال : دليلي على صحتها وجود إياها متناقضة متنافية ، تدفعها العقول ، وتنفر منها النفوس ، لتباينها وتضادها ، لا نظر يقويها ، ولا جدل يصححها ، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل لها والفحص عنها ، ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة وحسن سياسة وعقول راجحة قد انقادوا إليها وتدينوا بها ، مع ما ذكرت من تناقضها في العقل ، فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها ، إلا بدلائل شاهدوها وآيات ومعجزات عرفوها ، أوجب انقيادهم إليها والتدين بها .

                        فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها ؟

                        فقال : وهل يدرك ذلك أو تعلم غايته ؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة . ووصفهم للأقانيم والجوهر ، وهو الثالوثي ، وهل الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا ؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالإنسان المحدث ، وما جرى في ولادته وصلبه وقتله ، وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صلب ، وبصق في وجهه ، ووضع على رأسه إكليل الشوك ، وضرب رأسه [ ص: 209 ] بالقضيب ؟ وسمرت قدماه ، ونخز بالأسنة والخشب جنباه ؟ وطلب ( الماء ) فسقي الخل من بطيخ الحنظل ؟

                        فأمسكوا عن مناظرته ، لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده . اهـ .

                        والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من غير برهان ولا دليل .

                        القسم الثالث : يتنوع أيضا ، وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصلية ، فلا يخلو :

                        أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه ، بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره ، وتعظيمهم له بخلاف الغير .

                        أو لا يكون ثم من هو أولى منه ، لكن ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة .

                        فإن كان هناك منتصبون ، فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم; فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه ، بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين ، فهو غير معذور ، إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر ، فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم .

                        وهذا حال من بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم ، ولم ينظروا نظر المستبصر حتى لم يفرقوا بين الطريقين ، وغطى الهوى على عقولهم دون أن يبصروا الطريق ، فكذلك [ ص: 210 ] أهل هذا النوع .

                        وقلما تجد من هذه صفته; إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد .

                        خرج البغوي عن أبي الطفيل الكناني أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا له بالبركة ، وأخذ بجبهته ، فنبتت شعرة بجبهته كأنها هلبة فرس . قال : فشب الغلام ، فلما كان زمن الخوارج; أجابهم ، فسقطت الشعرة عن جبهته ، فأخذه أبوه ، فقيده وحبسه ، مخافة أن يلحق بهم ، قال : فدخلنا عليه ، فوعظنا [ ه ] وقلنا له : ألم تر بركة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت ؟ قال : فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم ، قال : فرد الله عز وجل الشعرة في جبهته إذ تاب .

                        وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس ، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين ، ففي تأثيمه نظر . ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم .

                        ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم ، واستقامة لما عليه أهل عصرهم ، من عبادة غير الله ، وما أشبه ذلك; لأن العلماء يقولون في حكمهم : إنهم على قسمين :

                        قسم غابت عليه الشريعة ، ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله ، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم ، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه ، وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة : [ ص: 211 ] ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .

                        وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله ، والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوا من الباطل ، فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين ، مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة ، لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة ، فصار [ وا ] من أهلها . فكذلك ما نحن في الكلام عليه ، إذ لا فرق بينهما .

                        ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول : كيفما كان ؛ لا يعذب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم .

                        وهذا إن ثبت قولا هكذا ، فنظيره في مسألتنا أن يأتي عالم أعلم من ذلك المنتصب يبين السنة من البدعة ، فإن راجعه هذا المقلد في أحكام دينه ولم يقتصر على الأول ، فقد أخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامة ، وإن اقتصر على الأول ظهر عناده ، لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارئ ، وإذا لم يرضه; كان ذلك لهوى داخله ، وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه ، وهو إذا بلغ هذا المبلغ; لم يبعد أن ينتصر لمذهب صاحبه ، ويحسنه ، ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته ، وحكمه قد تقدم في القسم قبله .

                        فأنت ترى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى أصحاب أهواء وبدع ، وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فيها ، وردوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وغطى على قلوبهم رين الهوى ، حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها; [ ص: 212 ] كيف صارت شريعته صلى الله عليه وسلم حجة عليهم على الإطلاق والعموم ، وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم ، من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره ، وما ذاك إلا لقيام الحجة عليهم ، بمجرد بعثته وإرساله لهم مبينا للحق الذي خالفوه .

                        فمسألتنا شبيهة بذلك ، فمن أخذ بالحزم ، فقد استبرأ لدينه ، ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك ، وحسبنا الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية