[ ص: 352 ] 17
ثم دخلت سنة سبع عشرة
ذكر
بناء الكوفة والبصرة
في هذه السنة اختطت
الكوفة ، وتحول
سعد إليها من
المدائن .
وكان سبب ذلك أن
سعدا أرسل وفدا إلى
عمر بهذه الفتوح المذكورة ، فلما رآهم
عمر سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم ، فقالوا : وخومة البلاد غيرتنا فأمرهم
عمر أن يرتادوا منزلا ينزله الناس ، وكان قد حضر مع الوفد نفر من
بني تغلب ليعاقدوا
عمر على قومهم ، فقال لهم
عمر : أعاقدهم على أن من أسلم منكم كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، ومن أبى فعليه الجزية . فقالوا : إذن يهربون ويصيرون عجما ، وبذلوا له الصدقة ، فأبى ، فجعلوا جزيتهم مثل صدقة المسلم ، فأجابهم على أن لا ينصروا وليدا ، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من
النمر وإياد إلى
سعد بالمدائن ، ونزلوا
بالمدائن ونزلوا معه بعد
بالكوفة .
وقيل : بل كتب
حذيفة إلى
عمر : إن العرب قد رقت بطونها ، وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها . وكان مع
سعد فكتب
عمر إلى
سعد : أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم ؟ فكتب إليه
سعد : إن الذي غيرهم وخومة البلاد ، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان . فكتب إليه
عمر : أن ابعث
سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر . فأرسلهما
سعد ، فخرج
سلمان حتى يأتي
الأنبار فسار في غربي
الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى
الكوفة ، وسار
[ ص: 353 ] حذيفة في شرقي
الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى
الكوفة ، وكل رمل وحصباء مختلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة : دير حرمة ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة ، وخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا ودعوا الله - تعالى - أن يجعلها منزل الثبات . فلما رجعا إلى
سعد بالخبر وقدم كتاب
عمر إليه أيضا كتب
سعد إلى
القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتم أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده ، ففعلا . فارتحل
سعد من
المدائن حتى نزل
الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة ، وكان بين نزول
الكوفة ووقعة
القادسية سنة وشهران ، وكان فيما بين قيام
عمر واختطاط
الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر .
ولما نزلها
سعد وكتب إلى
عمر : إني قد نزلت
بالكوفة منزلا فيما بين
الحيرة والفرات بريا وبحريا ينبت الحلفاء والنصي ، وخيرت المسلمين بينها وبين
المدائن فمن أعجبه المقام
بالمدائن تركته فيها كالمسلحة . ولما استقروا بها عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم ، واستأذن أهل
الكوفة في بنيان القصب ، واستأذن فيه أهل
البصرة أيضا ، واستقر منزلهم فيها في الشهر الذي نزل أهل
الكوفة بعد ثلاث نزلات قبلها .
فكتب إليهم : إن العسكر أشد لحربكم وأذكر لكم ، وما أحب أن أخالفكم . فابتنى أهل المصرين بالقصب .
ثم إن الحريق وقع في
الكوفة والبصرة ، وكانت
الكوفة أشد حريقا في شوال ، فبعث
سعد نفرا منهم إلى
عمر يستأذنونه في البنيان باللبن ، فقدموا عليه بخبر الحريق
[ ص: 354 ] واستئذانه أيضا ، فقال : افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات ، ولا تطاولوا في البنيان ، والزموا السنة تلزمكم الدولة . فرجع القوم إلى
الكوفة بذلك ، وكتب
عمر إلى
البصرة بمثل ذلك .
وكان على تنزيل
الكوفة أبو هياج بن مالك ، وعلى تنزيل
البصرة عاصم بن دلف أبو الجرباء ، وقدر المناهج أربعين ذراعا ، وما بين ذلك عشرين ذراعا ، والأزقة سبع أذرع ، والقطائع ستين ذراعا ، وأول شيء خط فيهما وبني مسجداهما ، وقام في وسطهما رجل شديد النزع ، فرمى في كل جهة بسهم ، وأمر أن يبنى ما وراء ذلك ، وبنى ظلة في مقدمة مسجد
الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في
الحيرة ، وجعلوا على الصحن خندقا لئلا يقتحمه أحد ببنيان ، وبنوا
لسعد دارا بحياله ، وهي
قصر الكوفة اليوم ، بناه
روزبه من آجر بنيان الأكاسرة
بالحيرة ، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعد فهو له ، حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه .
وبلغ
عمر أن
سعدا قال وقد سمع أصوات الناس من الأسواق : سكنوا عني الصويت ، وأن الناس يسمونه قصر
سعد ، فبعث
محمد بن مسلمة إلى
الكوفة ، وأمره أن يخرق باب القصر ثم يرجع ، ففعل ، فبلغ
سعدا ذلك فقال : هذا رسول أرسل لهذا ، فاستدعاه
سعد ، فأبى أن يدخل إليه فخرج إليه
سعد وعرض عليه نفقته ، فلم يأخذ ، وأبلغه كتاب
عمر إليه : بلغني أنك اتخذت قصرا جعلته حصنا ، ويسمى قصر
سعد بينك وبين الناس باب فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال ، انزل منه [ منزلا ] مما يلي بيوت الأموال ، وأغلقه ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله . فحلف له
سعد ما قال الذي قالوا ، فرجع
محمد فأبلغ
عمر قول
سعد ، فصدقه .
وكانت ثغور
الكوفة أربعة :
حلوان وعليها
القعقاع ،
وماسبذان وعليها
ضرار بن [ ص: 355 ] الخطاب ،
وقرقيسيا وعليها
عمر بن مالك ، أو
عمرو بن عتبة بن نوفل ،
والموصل وعليها
عبد الله بن المعتم ، وكان بها خلفاؤهم إذا غابوا عنها .
وولي
سعد الكوفة بعدما اختطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان
بالمدائن قبلها .