[ ص: 5 ] فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة هديه في الزكاة أكمل هدي ، في وقتها وقدرها ونصابها ومن تجب عليه ومصرفها . وقد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين ، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه ، وقيد النعمة بها على الأغنياء ، فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته ، بل يحفظه عليه وينميه له ، ويدفع عنه بها الآفات ، ويجعلها سورا عليه وحصنا له وحارسا له .
ثم إنه جعلها في
أربعة أصناف من المال ، وهي أكثر الأموال دورانا بين الخلق ، وحاجتهم إليها ضرورية .
أحدها : الزرع والثمار .
الثاني : بهيمة الأنعام : الإبل والبقر والغنم .
الثالث : الجوهران اللذان بهما قوام العالم ، وهما الذهب والفضة .
الرابع : أموال التجارة على اختلاف أنواعها .
ثم إنه أوجبها مرة كل عام ، وجعل
حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها ، وهذا أعدل ما يكون ، إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال ، ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين ، فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة .
ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها ،
[ ص: 6 ] وسهولة ذلك ومشقته ، فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعا محصلا من الأموال وهو الركاز . ولم يعتبر له حولا ، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به .
وأوجب نصفه وهو العشر فيما كانت مشقة تحصيله وتعبه وكلفته فوق ذلك ، وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها ، ويتولى الله سقيها من عنده بلا كلفة من العبد ، ولا شراء ماء ، ولا إثارة بئر ودولاب .
وأوجب
نصف العشر فيما تولى العبد سقيه بالكلفة والدوالي والنواضح وغيرها . وأوجب نصف ذلك وهو ربع العشر فيما كان النماء فيه موقوفا على عمل متصل من رب المال بالضرب في الأرض تارة ، وبالإدارة تارة ، وبالتربص تارة ، ولا ريب أن كلفة هذا أعظم من كلفة الزرع والثمار ، وأيضا فإن نمو الزرع والثمار أظهر وأكثر من نمو التجارة ، فكان واجبها أكثر من واجب التجارة ، وظهور النمو فيما يسقى بالسماء والأنهار أكثر مما يسقى بالدوالي والنواضح ، وظهوره فيما وجد محصلا مجموعا كالكنز ، أكثر وأظهر من الجميع .
[ ص: 7 ] ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساة كل مال وإن قل ، جعل للمال الذي تحتمله المواساة نصبا مقدرة المواساة فيها ، لا تجحف بأرباب الأموال ، وتقع موقعها من المساكين ، فجعل
للورق مائتي درهم ،
وللذهب عشرين مثقالا ،
وللحبوب والثمار خمسة أوسق ، وهي خمسة أحمال من أحمال إبل العرب ،
وللغنم أربعين شاة ،
وللبقر ثلاثين بقرة ، وللإبل خمسا ؛ لكن لما كان نصابها لا يحتمل المواساة من جنسها أوجب فيها شاة . فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا منها فكان هو الواجب .
ثم إنه لما قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان ، بحسب كثرة الإبل وقلتها من ابن مخاض ، وبنت مخاض ، وفوقه ابن لبون ، وبنت لبون ، وفوقه الحق والحقة ، وفوقه الجذع والجذعة ، وكلما كثرت الإبل زاد السن إلى أن
[ ص: 8 ] يصل السن إلى منتهاه ، فحينئذ جعل زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادة عدد المال .
فاقتضت حكمته أن جعل في الأموال قدرا يحتمل المواساة ، ولا يجحف بها ، ويكفي المساكين ، ولا يحتاجون معه إلى شيء ، ففرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء ، فوقع الظلم من الطائفتين ، الغني يمنع ما وجب عليه ، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه ، فتولد من بين الطائفتين ضرر عظيم على المساكين ، وفاقة شديدة أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف في المسألة ،
والرب سبحانه تولى قسم الصدقة بنفسه وجزأها ثمانية أجزاء ، يجمعها صنفان من الناس .
أحدهما : من يأخذ لحاجة فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها وكثرتها وقلتها ، وهم الفقراء والمساكين ، وفي الرقاب ، وابن السبيل .
والثاني : من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، والغارمون لإصلاح ذات البين ، والغزاة في سبيل الله ، فإن لم يكن الآخذ محتاجا ، ولا فيه منفعة للمسلمين ، فلا سهم له في الزكاة .