ثم قال تعالى : (
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير ) .
اعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون مانا ومؤذيا ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك ، وهو هذه الآية ، وبين تعالى أن
غرض هؤلاء المنفقين من هذا الإنفاق أمران :
أحدهما : طلب مرضاة الله تعالى ، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت ، وسواء قولك : بغيت وابتغيت .
والغرض الثاني : هو تثبيت النفس ، وفيه وجوه :
أحدها : أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ، ومن جملة ذلك ترك إتباعها بالمن والأذى ، وهذا قول القاضي .
وثانيها : وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد " وتثبيتا من بعض أنفسهم " .
وثالثها : أن
النفس لا ثبات لها في موقف العبودية ، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ، ومعشوقها أمران : الحياة العاجلة والمال ، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه ، وإذا كلفت ببذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت ، فلهذا دخل فيه " من " التي هي للتبعيض ، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن
بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها ، وهو المراد من قوله : (
وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) [الصف : 11] وهذا الوجه ذكره صاحب الكشاف ، وهو كلام حسن وتفسير لطيف .
ورابعها ، وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع : أن
ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله ، على ما قال : (
ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [الرعد : 28] فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي ، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية ، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه : (
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [الإنسان : 9] ووصف إنفاق
أبي بكر فقال : (
وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) [الليل : 19 ، 20 ، 21] فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض ، فهناك اطمأن قلبه ، واستقرت نفسه ، ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه ، ولهذا قال أولا في هذا الإنفاق إنه لطلب مرضاة الله ، ثم أتبع ذلك بقوله : (
وتثبيتا من أنفسهم ) .
وخامسها : أنه ثبت في العلوم العقلية ، أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات .
إذا عرفت هذا فنقول : إن من
يواظب على الإنفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران :
أحدهما : حصول هذا المعنى .
والثاني : صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس ، حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس ، وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح ، فإتيان العبد بالطاعة لله ، ولابتغاء مرضاة الله ، يفيد هذه الملكة المستقرة ، التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس ، وهو المراد أيضا
[ ص: 50 ] بقوله : (
يثبت الله الذين آمنوا ) وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية ، فصار العبد كما قاله بعض المحققين غائبا حاضرا ، ظاعنا مقيما .
وسادسها : قال
الزجاج : المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ، ولا يخيب رجاءهم ؛ لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق ، فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعا ؛ لأنه لا يؤمن بالثواب ، فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت .
وسابعها : قال
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد وعطاء : المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف ، قال
الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإذا كان لله أعطى ، وإن خالطه أمسك ، قال
الواحدي : وإنما جاز أن يكون التثبيت بمعنى التثبت ؛ لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق ، وصرف المال في وجهه . ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلا ، فقال : (
كمثل جنة بربوة أصابها وابل ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
عاصم وابن عامر " بربوة " بفتح الراء ، وفي المؤمنين " إلى ربوة " وهو لغة تميم ، والباقون بضم الراء فيهما ، وهو أشهر اللغات ولغة
قريش ، وفيه سبع لغات " ربوة " بتعاقب الحركات الثلاث على الراء ، و" رباوة " بالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء ، و" ربو " . والربوة المكان المرتفع ، قال
الأخفش : والذي أختاره " ربوة " بالضم ؛ لأن جمعها الربى ، وأصلها من قولهم : ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ، ومنه الرابية ؛ لأن أجزاءها ارتفعت ، ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ، ومنه الربا ، لأنه يأخذ الزيادة .
واعلم أن المفسرين قالوا : البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعا .
ولي فيه إشكال : وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيرا فلا يحسن ريعه ، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ، ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضا ريعه ، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة ، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه ، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا ، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما ، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها . وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين :
أحدهما : قوله تعالى : (
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) [الحج : 5] والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا ههنا .
والثاني : أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ، ولا يربو ، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه ، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو ، فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده .
ثم قال تعالى : (
أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن كثير ونافع وأبو عمرو " أكلها " بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل ، وهو الأصل ، والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى : (
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) [إبراهيم : 25] أي : ثمرتها وما يؤكل منها ، فالأكل في المعنى مثل الطعمة ، وأنشد
الأخفش :
فما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بقرام
[ ص: 51 ] وقال
أبو زيد : يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا .
المسألة الثانية : قال
الزجاج : (
فآتت أكلها ضعفين ) يعني مثلين ؛ لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه ، وقيل ضعف الشيء مثلاه ، قال
عطاء : حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين ، وقال
الأصم : ضعف ما يكون في غيرها ، وقال
أبو مسلم : مثلي ما كان يعهد منها .
ثم قال تعالى : (
فإن لم يصبها وابل فطل ) الطل : مطر صغير القطر ، ثم في المعنى وجوه :
الأول : المعنى أن هذه الجنة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل ، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت .
الثاني : معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل ، فهي على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر ، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلا كان أو كثيرا .
ثم قال : (
والله بما تعملون بصير ) والمراد من البصير العليم ، أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها ، والأمور الباعثة عليها ، وأنه تعالى مجاز بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر .