الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الكاف في قوله : ( كالذي ) فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس ، فبين تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، كما أن النفاق والرياء يبطلانها ، وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضا ، إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه ، فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى ، وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الإبطال الإتيان به باطلا ، لا أن المقصود الإتيان به صحيحا ، ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن يكون الكاف في محل النصب على الحال ، أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الرياء مصدر ، كالمراءاة يقال : راءيته رياء ومراءاة ، مثل : راعيته مراعاة ورعاء ، وهو أن ترائي بعملك غيرك ، وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني ، فقال : ( فمثله ) وفي هذا الضمير وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه عائد إلى المنافق ، فيكون المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر ، ثم قال : ( كمثل صفوان ) وهو الحجر الأملس ، وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد ، وكل ذلك مقصور ، وقال بعضهم : الصفوان جمع [ ص: 48 ] صفوانة ، كمرجان ومرجانة ، وسعدان وسعدانة ، ثم قال : ( فأصابه وابل ) الوابل المطر الشديد ، يقال : وبلت السماء تبل وبلا ، وأرض موبولة ، أي أصابها وابل ، ثم قال : ( فتركه صلدا ) الصلد الأملس اليابس ، يقال : حجر صلد وجبل صلد ، إذا كان براقا أملس ، وأرض صلدة أي لا تنبت شيئا كالحجر الصلد ، وصلد الزند إذا لم يور نارا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المان المؤذي ، ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا ، كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل ؛ لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب ، وأما المعتزلة فقالوا : إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر ، كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب ، والمان والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة ، هذا على قولنا ، وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في التشبيه ، قال القفال - رحمه الله تعالى - : وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذرا في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ، ويجده وقت حاجته ، والصفوان محل بذر المنافق ، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر ، والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذرا في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعا بذره خاليا لا شيء فيه ، ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة ، والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل ، فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض ، فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة ، وأما عمل المان والمؤذي والمنافق ، فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئا . ومن الملحدة من طعن في التشبيه ، فقال : إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهرا نقيا نظيفا عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن وجه التشبيه ما ذكرناه ، فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القاضي : وأيضا فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه أصلح في الاستقرار عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الانتفاع به في التيمم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : الانتفاع به فيما يتصل بالنبات . وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) فاعلم أن الضمير في قوله : ( لا يقدرون ) إلى ماذا يرجع ؟ فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي : لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان ؛ لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه ، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر ، وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال - رحمه الله تعالى - وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه عائد إلى قوله : ( كالذي ينفق ماله ) وخرج على هذا المعنى ؛ لأن قوله : ( كالذي ينفق ماله ) إنما أشير به إلى الجنس ، والجنس في حكم العام .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القفال - رحمه الله - : وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون ذلك مردودا على قوله : ( لا ) [ ص: 49 ] ( تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فرجع عن الخطاب إلى الغائب ، كقوله تعالى : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [يونس : 22] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال [تعالى] : ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ومعناه على قولهم : سلب الإيمان ، وعلى قول المعتزلة : إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية