(
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )
قوله تعالى : (
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )
هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق ، وهو بيان أن
الذي يجوز الإنفاق عليه من هو . ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان سبب النزول وجوه :
أحدها : أن هذه الآية نزلت حين
جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها ، وكذلك جدتها وهما مشركتان ، أتيا أسماء يسألانها شيئا فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتصدق عليهما .
والرواية الثانية : كان أناس من
الأنصار لهم قرابة من
قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا فنزلت هذه الآية .
والرواية الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتصدق على المشركين ، حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، ونظيره قوله تعالى : (
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم ) [الممتحنة : 8] فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين .
[ ص: 68 ] المسألة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى : (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) [الكهف : 6] (
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [الشعراء : 3] وقال : (
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) [يونس : 99] وقال : (
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) [التوبة : 128] فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ومبينا للدلائل ، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك ، فالهدى ههنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم ، وفيه وجه آخر : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار .
المسألة الثالثة : ظاهر قوله : (
ليس عليك هداهم ) خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته ، ألا تراه قال : (
إن تبدوا الصدقات ) [البقرة : 271] وهذا خطاب عام ، ثم قال : (
ليس عليك هداهم ) وهو في الظاهر خاص ، ثم قال بعده (
وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ) وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية , وعموم ما بعدها عمومها أيضا .
أما قوله تعالى : (
ولكن الله يهدي من يشاء ) فقد احتج به الأصحاب على أن
هداية الله تعالى غير عامة ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا : لأن قوله : (
ولكن الله يهدي من يشاء ) إثبات للهداية التي نفاها بقوله (
ليس عليك هداهم ) لكن المنفي بقوله (
ليس عليك هداهم ) هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، فكان قوله : (
ولكن الله يهدي من يشاء ) عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعا بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب .
قالت
المعتزلة (
ولكن الله يهدي من يشاء ) يحتمل وجوها :
أحدها : أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك .
وثانيها : يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء .
وثالثها : ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله .
ورابعها : أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء ، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك .
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله : (
ولكن الله يهدي من يشاء ) هو المنفي أولا بقوله (
ليس عليك هداهم ) لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولا : (
ليس عليك هداهم ) هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، فالمثبت بقوله (
ولكن الله يهدي من يشاء ) يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه .
ثم قال : (
وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ) فالمعنى : وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم .