(
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون )
قوله تعالى : (
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون )
اعلم أن المقصود بيان
عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله ، وهو متعلق بما افتتح الله به السورة ، وهو قوله : (
أوفوا بالعقود ) ، فقال : (
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال ، وأرسلنا إليهم رسلا بتعريف الشرائع والأحكام . وقوله : (
كلما جاءهم رسول بما )
[ ص: 47 ] (
لا تهوى أنفسهم ) جملة شرطية وقعت صفة لقوله ( رسلا ) والراجع محذوف ، والتقدير : كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم ، أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف .
وههنا سؤالات :
الأول : أين جواب الشرط ؟ فإن قوله : (
فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) لا يصلح أن يكون جوابا لهذا الشرط ; لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين .
والجواب : أن جواب الشرط محذوف ، وإنما جاز حذفه ; لأن الكلام المذكور دليل عليه ، والتقدير : كلما جاءهم رسول ناصبوه ، ثم إنه قيل : فكيف ناصبوه ؟ فقيل : فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ، وقوله : الرسول الواحد لا يكون فريقين ، فنقول : إن قوله : (
كلما جاءهم رسول ) يدل على كثرة الرسل ، فلا جرم جعلهم فريقين .
السؤال الثاني : لم
ذكر أحد الفعلين ماضيا ، والآخر مضارعا ؟
والجواب : أنه تعالى بين أنهم كيف كانوا يكذبون
عيسى وموسى في كل مقام ، وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه ، وأنه عليه السلام إنما توفي في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين .
وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق
زكريا ويحيى عليهما السلام ، وكانوا قد قصدوا أيضا قتل
عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه ، فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع
موسى عليه السلام ; لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة ، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع
زكريا ،
ويحيى ،
وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريبا فكان كالحاضر .
السؤال الثالث : ما
الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى : (
فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) .
والجواب : قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية ، فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح ، فكان التقديم لهذه الفائدة .