(
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون )
قوله تعالى : (
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون )
اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من
دلائل إثبات الصانع تعالى ، ويحتمل أن يكون المراد منه ذكر
الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر .
أما الوجه الأول : فتقريره أن الله تعالى لما استدل بخلقه السماوات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاستدلال بخلقه الإنسان على إثبات هذا المطلوب ، فقال : (
هو الذي خلقكم من طين ) والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من
آدم وآدم كان مخلوقا من طين ؛ فلهذا السبب قال : (
هو الذي خلقكم من طين ) وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن
الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، وهما يتوالدان من الدم ، والدم إنما يتولد من الأغذية ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان ، فبقي أن تكون نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية ، ولا شك أنها متولدة من الطين ، فثبت أن
كل إنسان متولد من الطين ، وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب .
إذا عرفت هذا فنقول : هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور ، ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد ، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها ، وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ، ومدبر رحيم ، وذلك هو المطلوب .
[ ص: 127 ] وأما الوجه الثاني : وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد ، فنقول : لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم رتب خلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته ، وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها ، وذلك يدل على صحة القول بالمعاد .