(
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) .
قوله تعالى :(
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن
المسجد الحرام ، وأورد الإشكالات التي ذكروها ، وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية ، فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة ، وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا ، أو إلى أن يعطوا الجزية .
فالصفة الأولى : أنهم لا يؤمنون بالله ، واعلم أن القوم يقولون : نحن نؤمن بالله ، إلا أن التحقيق أن أكثر
اليهود مشبهة ، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه ، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له ، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم ، فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله ، فثبت أن
اليهود منكرون لوجود الإله .
فإن قيل :
فاليهود قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أن المسلمين كذلك ، فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة
اليهود ؟
قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال : لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق .
وأما
النصارى : فهم يقولون : بالأب والابن وروح القدس ، والحلول والاتحاد ، وكل ذلك ينافي الإلهية .
فإن قيل : حاصل الكلام : أن كل من نازع في صفة من صفات الله ، كان منكرا لوجود الله تعالى ، وحينئذ يلزم أن تقولوا : إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى ؛ لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى
ألا ترى أن
أهل السنة اختلفوا اختلافا شديدا في هذا الباب ،
فالأشعري أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ،
وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت إدراك الطعوم ، وإدراك الروائح ، وإدراك الحرارة والبرودة ، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس ، والأستاذ
أبو إسحاق أنكره ، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالا سبعة معللة بتلك الصفات ، ونفاة الأحوال أنكروه ،
وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا ، ثم صار ذلك في الإنزال ، والباقون أنكروه ، وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات ، في الأمر ، والنهي ، والخبر ، والاستخبار ، والنداء ،
[ ص: 24 ] والمشهور أن كلام الله تعالى واحد ، واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا ؟ فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة ، وأما
اختلافات المعتزلة ، وسائر الفرق في صفات الله تعالى ، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد .
إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجبا إنكار الذات أو لا يوجب ذلك ؟ فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال : إنهم أنكروا الإله ، وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض
اليهود ، وذهاب
النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله ، وأيضا فمذهب
النصارى أن أقنوم الكلمة حل في
عيسى ، وحشوية المسلمين يقولون : إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى ، وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارئ ، وفي لسان جميع القراء ، وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم ،
فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق
عيسى ، وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن ، وفي كل جسم كتب فيه القرآن ، فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب ، وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله ، فهذا تقرير هذا السؤال .
والجواب : أن الدليل دل على أن
من قال : إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى ، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم ، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى ، فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة ، بل في الذات ، فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله ، أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة ، فظهر الفرق ، وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية ، فنحن نكفرهم قطعا ، فإنه تعالى كفر
النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة( الله ) في
عيسى ، وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة( الله ) في ألسنة جميع من قرأ القرآن ، وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن ، فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير ، فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجبا للقول بالتكفير كان أولى .
والصفة الثانية :
من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر .
واعلم أن المنقول عن
اليهود والنصارى : إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني .
واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية ، ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها ، إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية ، ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة ، بحيث يأكلون ويشربون ، وبالجواري يتمتعون ، ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني ، فقد أنكر صريح القرآن ، ولما كان
اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى ، ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر .
الصفة الثالثة : من صفاتهم قوله تعالى :(
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) وفيه وجهان :
الأول : أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول .
والثاني : قال
أبو روق : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم .
[ ص: 25 ] الصفة الرابعة : قوله :(
ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ) يقال : فلان يدين بكذا ، إذا اتخذه دينا فهو معتقده ، فقوله :(
ولا يدينون دين الحق ) أي :
لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق ، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال :(
من الذين أوتوا الكتاب ) فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب ، والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم ؛ لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية .