[ ص: 134 ]
(
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )
قوله تعالى :(
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول ، وما أعد لهم من الثواب ، بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها ، وهي منازل السابقين الأولين . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم ؟ وذكروا وجوها :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - : هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا
بدرا ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان . والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة ، وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ماذا ، فبقي اللفظ مجملا إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا ، وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة ؛ إزالة للإجمال عن اللفظ ، وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة ، وكان ذلك مقويا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما قدم
المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة ، فازوا بمنصب عظيم ؛ فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد : والسابقون الأولون في الهجرة .
إذا ثبت هذا فنقول : إن
أسبق الناس إلى الهجرة هو
أبو بكر ؛ لأنه كان في خدمة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وكان مصاحبا له في كل مسكن وموضع ، فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره ،
nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب ، وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ولا شك أنه إنما بقي
بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل
لأبي بكر ، فكان نصيب
أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر ، فإذا ثبت هذا صار
أبو بكر محكوما عليه بأنه - رضي الله عنه - ، ورضي هو عن الله ، وذلك في أعلى الدرجات من الفضل .
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماما حقا بعد رسول الله ، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت ، وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم ، فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل
أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ، وعلى صحة إمامتهما .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من
المهاجرين والأنصار ؛ لأن هؤلاء
[ ص: 135 ] آمنوا ، وفي عدد المسلمين في
مكة والمدينة قلة وضعف . فقوي الإسلام بسببهم ، وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم ، وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم ، فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ؟ ثم نقول : هب أن
أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول
المهاجرين ، لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة ؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه تغير عن تلك الحالة ، وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة ؟
والجواب عن الأول : أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه ؛ لأن لفظ السابق مطلق ، فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور ، ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى .
قوله : المراد منه السبق في الإسلام .
قلنا : السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام ، والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة ، فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى . وأيضا فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان ، إلا أنا نقول : قوله :(
والسابقون الأولون ) صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة ، فوجب أن يدخل فيه
علي - رضي الله عنه - وغيره ، وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان
أبي بكر أسبق أم إيمان
علي ؟ لكنهم اتفقوا على أن
أبا بكر من السابقين الأولين ، واتفق أهل الحديث على أن
أول من أسلم من الرجال
أبو بكر ، ومن النساء
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة ، ومن الصبيان
علي ، ومن الموالي
زيد ، فعلى هذا التقدير : يكون
أبو بكر من السابقين الأولين ، وأيضا قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول - عليه السلام - ، ويصير هو قدوة لغيره ، وهذا المعنى في حق
أبي بكر أكمل ، وذلك لأنه حين أسلم كان رجلا كبير السن مشهورا فيما بين الناس ، واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - ، فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى
طلحة والزبير nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان بن عفان ، وعرض الإسلام عليهم ، ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول - عليه السلام - ، وأسلموا على يد الرسول - عليه السلام - ، فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام ، وصار هذا قدوة لغيره ، وهذه المعاني ما حصلت في
علي - رضي الله عنه - ؛ لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن ، وكان جاريا مجرى صبي في داخل البيت ، فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام ، وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره ، فثبت أن الرأس والرئيس في قوله :(
والسابقون الأولون من المهاجرين ) ليس إلا
أبا بكر ، أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفا بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة ؟
قلنا : قوله تعالى :(
رضي الله عنهم ورضوا عنه ) يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه . فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة ، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ . أو نقول : إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين ، وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة ، ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم ، وهو قوله :(
رضي الله عنهم ورضوا عنه ) والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم ، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب ، يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله :(
رضي الله عنهم ورضوا عنه ) معلل بكونهم سابقين في الهجرة ، والعلة ما دامت موجودة فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلا في جميع مدة وجودهم ، أو نقول : إنه تعالى قال :(
وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ) وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم ، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة
[ ص: 136 ] التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات ، وليس لأحد أن يقول : المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان ، لأنا نقول : هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر . وأيضا فعلى هذا التقدير : لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح ، وبين سائر الفرق فرق ؛ لأنه تعالى :(
وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار )
ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ، لو صاروا مؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل ، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء ، فسقط هذا السؤال . فظهر أن هذه الآية دالة على فضل
أبي بكر ، وعلى صحة القول بإمامته قطعا .