ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع :
الأول : قوله : (
الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إن شئت جعلت "الذين" صفة الكافرين في الآية المتقدمة ، وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله : (
أولئك ) وإن شئت نصبته على الذم.
المسألة الثانية : الاستحباب طلب محبة الشيء ، وأقول : إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محبا لذلك الشيء ، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ، ولكنه يكره كونه محبا لهما ، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محبا له ، وأحب تلك المحبة ، فهذا هو نهاية المحبة ، فقوله : (
الذين يستحبون الحياة الدنيا ) يدل على كونهم في نهاية
المحبة للحياة الدنيوية ، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلا عن الحياة الأخروية ، وعن معايب هذه الحياة العاجلة ، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة ، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب :
فأحدها : أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام
[ ص: 62 ] والغموم والهموم والمخاوف والأحزان.
وثانيها : أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام ، بخلاف اللذات الروحانية ، فإنها في أنفسها لذات وسعادات.
وثالثها : أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والانقراض والانقضاء.
ورابعها : أنها حقيرة قليلة ، وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلا عن معايبها وكان غافلا عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية ، ولذلك قال تعالى : (
والآخرة خير وأبقى ) [الأعلى : 17] فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه.