(
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون )
قوله تعالى : (
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون )
[ ص: 11 ]
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل ، وكانت تلك الدلائل - كما أنها كانت دلائل - ، فكذلك أيضا كانت شرحا وتفصيلا لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى ، والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة ، والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم ، وثبت أنه هو المولى لجميع هذه النعم والمعطي لكل هذه الخيرات ، فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه ، لا سيما إذا كان الموجود جمادا لا يفهم ولا يقدر ، فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات : (
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) والمعنى : أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق ، بل لا يقدر البتة على شيء ؟ أفلا تذكرون ، فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر . ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن
العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنسانا عاقلا فاهما ينعم بالنعمة العظيمة ، ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته ، فهذه الأصنام جمادات محضة ، وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار ، فكيف تقدمون على عبادتها ؟ ! وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها ؟ !
المسألة الثانية : المراد بقوله : (
كمن لا يخلق ) الأصنام ، وأنها جمادات ، فلا يليق بها لفظة " من " لأنها لأولي العلم . وأجيب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها ، لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ، ألا ترى إلى قوله على أثره : (
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) .
والوجه الثاني في الجواب : أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق .
والوجه الثالث : أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم ، فكيف من لا علم عنده كقوله : (
ألهم أرجل يمشون بها ) يعني : أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات ، فكيف يصح منهم عبادتها ، وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا .
فإن قيل : قوله : (
أفمن يخلق كمن لا يخلق ) المقصود منه إلزام عبدة الأوثان ، حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله ، وفي الاشتغال بعبادتها ، فكان حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق .
والجواب : المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله ، وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها ، فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله : (
أفمن يخلق كمن لا يخلق ) .