(
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .
قوله تعالى : (
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .
اعلم أن قوله تعالى : (
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وحاصلها :
لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق في دعواه ، (
أو نرى ربنا ) حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا ؟ وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء ، وكان له إلى تحصيله طريقان ، أحدهما يفضي إليه قطعا والآخر قد يفضي وقد لا يفضي ، فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن ، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق
محمد صلى الله عليه وسلم أكثر إفضاء إلى المقصود ، فلو أراد الله تعالى تصديق
محمد صلى الله عليه وسلم لفعل ذلك ، وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه ، هذا حاصل الشبهة ، ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال
الفراء : قوله تعالى : (
وقال الذين لا يرجون لقاءنا ) معناه : لا يخافون لقاءنا ، ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية ، إذا كان معه جحد ، ومثله قوله تعالى : (
ما لكم لا ترجون لله وقارا ) [نوح : 13] أي : لا تخافون له عظمة ، وقال القاضي : لا وجه لذلك ؛ لأن
الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد ، فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضا ، فالخوف تابع لهذا الرجاء .
المسألة الثانية : المجسمة تمسكوا بقوله تعالى : (
لقاءنا ) أنه جسم ، وقالوا : اللقاء هو الوصول ، يقال : هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به ، وقال تعالى : (
فالتقى الماء على أمر قد قدر ) [القمر : 12] ، فدلت الآية على
أنه سبحانه جسم ، والجواب على طريقين :
الأول : طريق بعض أصحابنا ، قال : المراد من اللقاء هو الرؤية ; وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي ، فسمي اللقاء أحد أنواع الرؤية ، والنوع الآخر الاتصال والمماسة ، فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية .
الطريق الثاني ، وهو كلام
المعتزلة : قال
[ ص: 60 ] القاضي : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، فيقال في الدعاء : لقاك الله الخير ، وقد يقول القائل : لم ألق الأمير ، وإن رآه من بعد أو حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير ، إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء ههنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في (
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) [الانفطار : 19] لا أنه رؤية البصر ، واعلم أن هذا الكلام ضعيف ; لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر ، بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر ، وبين الاتصال والمماسة ، وهو الوصول إلى الشيء ، وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي ، واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ، ينطلق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك الخير ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله (
وقال الذين لا يرجون لقاءنا ) مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلا ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني ، وبين الوصول بالرؤية ، وقد تعذر الأول فتعين الثاني ، وقوله : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على
صحة الرؤية ، بل على وجوبها ، بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار .
المسألة الثالثة : قوله : (
لولا أنزل ) معناه : هلا أنزل ، قال
الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية في
أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث .