صفحة جزء
المسألة الثانية : في معين الشوق إلى الله تعالى : اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه ، فأما الذي لم يدرك أصلا فلا يشتاق إليه ، فإن لم ير شخصا ولم يسمع وصفه ، لم يتصور أن يشتاق إليه ، ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه ، ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين :

أحدهما : أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية .

والثاني : أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره ، ولا سائر محاسنه ، فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط ، والوجهان جميعا متصوران في حق الله تعالى ، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين ، فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح مشوب بشوائب الخيالات ، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات ، وهي مدركات للمعارف الروحانية ، ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة ، وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فيما اتضح اتضاحا .

والثاني : أن الأمور الإلهية لا نهاية لها ، وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها ، وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة ، فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقا إلى معرفتها ، والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ، ولا يتصور أن يكون في الدنيا ، وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية ؛ إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته ، وحكمته في أفعاله ، وهي غير متناهية ، والاطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال ، وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى ، واعلم أن ذلك الشوق لذيذ ؛ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان ، والحرمان ، والوصول ، والصد آلاما مخلوطة بلذات ، واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان ، كانت أقوى ، فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر ، فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل ، والبهائم لا تستعد لها ، أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو .

المسألة الثالثة : في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حبا لله ، أما المتكلمون فقالوا : إن حبهم لله يكون من وجهين :

أحدهما : أن ما يصدر منهم من التعظيم ، والمدح والثناء ، والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ، ومحبة غيرهم ليست كذلك .

والثاني : أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه ، ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد ، وأما العارفون فقالوا : المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية ، وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان ، فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد ، فإن قيل : كيف يمكن أن يقال : محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ، ولا يأتون بها إلا لله تعالى ، ثم يقتلون أنفسهم حبا لله .

والجواب من وجوه :

أحدها : أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله ، بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة ، وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأنداد ، قال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) [ العنكبوت : 6 ] إلى آخره ، والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء ، والكافر قد يعرض عن ربه ، فكان حب المؤمن أقوى .

وثانيها : أن من أحب غيره رضي [ ص: 188 ] بقضائه ، فلا يتصرف في ملكه ، فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه ، أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه ، وذلك في الجهاد .

وثالثها : أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب ، فالذي فعلوه باطل .

ورابعها : قال ابن عباس : إن المشركين كانوا يعبدون صنما ، فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن .

وخامسها : أن المؤمنين يوحدون ربهم ، والكفار يعبدون مع الصنم أصناما فتنقص محبة الواحد ، أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية