والمسألة الثالثة : اختلفوا في كيفية هذا التزيين ، أما
المعتزلة فذكروا وجوها :
أحدها : قال
الجبائي :
المزين هو غواة الجن والإنس ، زينوا للكفار الحرص على الدنيا ، وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم ، وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة ، فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا . قال : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل ; لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، فإن كان المزين هو الله تعالى ، فإما أن يكون صادقا في ذلك التزيين ، وإما أن يكون كاذبا ، فإن كان صادقا وجب أن يكون ما زينه حسنا ، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا ، وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر ، وهذا أيضا كفر ، قال : فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان . هذا تمام كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13980أبي علي الجبائي في "تفسيره" .
وأقول : هذا ضعيف ; لأن قوله تعالى : (
زين للذين كفروا ) يتناول جميع الكفار ، فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين ، والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم ، إلا أن يقال : إن كل واحد منهم كان يزين للآخر ، وحينئذ يصير دورا ، فثبت أن الذي يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم ، فبطل قوله : إن المزين هم غواة الجن والإنس ; وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضا ، وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف ، وأما قوله : المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة ، وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزينا ، وعلى هذا التقدير سقط كلامه ، ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، فلم لا يجوز أن يقال : الله تعالى أخبر عن حسنه ، والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والراحات ، والإخبار عن ذلك ليس بكذب ، والتصديق بها ليس بكفر ، فسقط كلام
أبي علي في هذا الباب بالكلية .
التأويل الثاني : قال
أبو مسلم : يحتمل في (
زين للذين كفروا ) أنهم زينوا لأنفسهم ، والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أن ذاهبا ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : (
أنى يؤفكون ) [المائدة : 75] ، (
أنى يصرفون ) [غافر : 69] إلى غير ذلك ، وأكده بقوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ) [المنافقون : 9] فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب ، ولما كان
الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه ، واعلم أن هذا ضعيف ; وذلك لأن قوله : (
زين ) يقتضي أن مزينا زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن .
التأويل الثالث : أن هذا المزين هو الله تعالى ، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان :
أحدهما : قراءة من قرأ (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء للفاعل .
الثاني : قوله تعالى : (
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) [الكهف : 7] .
ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوها :
الأول : يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة ، وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده ، ونظيره قوله تعالى : (
زين للناس حب الشهوات ) [آل عمران : 14] إلى قوله : (
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات ) [آل عمران : 15] وقال أيضا : (
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) [الكهف : 46] وقالوا : فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى في الكل
[ ص: 7 ] أن
الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام .
الثاني : أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص الشديد في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين .
واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن
المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد ، وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر ، وهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، أو ما رجح , فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه ، فهذا يمنع كونه تزيينا في قلبه ، والنص دل على أنه حصل هذا التزيين ، وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ؛ لأن حال الاستواء لما امتنع حصول الرجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحا كان أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع ، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين ، فهذا هو توجيه السؤال ، ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء
المعتزلة .
الوجه الثالث : في تقرير هذا التأويل أن المراد : أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا الوجه سقط الإشكال ، وهذا أيضا ضعيف ; وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار ، وتزيين المباحات لا يختص به الكفار ، فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات ، وأيضا فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص ، وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها ، وليس كذلك الكافر ، فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالبا على ظنه ; لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها ، وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات ، وأيضا أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله : (
ويسخرون من الذين آمنوا ) وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة ، وتحملهم المشاق الواجبة ، فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات .
وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال والأحوال ، وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه ، وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية .
أما قوله تعالى : (
ويسخرون من الذين آمنوا ) فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوها من الروايات ، قال
الواحدي : قوله : (
ويسخرون ) مستأنف غير معطوف على (زين) ، ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي ; وذلك لأن الله أخبر عنهم بـ (زين) وهو ماض ، ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال : (
ويسخرون من الذين آمنوا ) ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون : هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها
[ ص: 8 ] ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل ، ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة ، أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم ; لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه ، بل قال بعض المحققين : الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات ; فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاسا معدودة ، وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمرا متعينا ، فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى .