المسألة الثالثة : في الآية سؤال ، وهو أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم ، فكيف أجابهم بهذا ؟
والجواب عنه من وجوه :
أحدها : أنه حصل في الآية ما يكون جوابا عن السؤال ، وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود ; وذلك لأن قوله : (
ما أنفقتم من خير ) جواب عن السؤال ، ثم إن ذلك
الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفا إلى جهة الاستحقاق ، فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلا للبيان .
وثانيها : قال
القفال : إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ ( ما ) إلا أن المقصود : السؤال عن الكيفية ; لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو ؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : (
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول ) [البقرة : 70] وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال ؛ لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : (
ما هي ) لا يمكن حمله على طلب الماهية ، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها ، فبهذا الطريق قلنا : إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال ، فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو ، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم : (
ماذا ينفقون ) ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف ، فلهذا حسن الجواب .
وثالثها : يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا السؤال فكأنهم قيل لهم : هذا سؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالا حلالا ، وبشرط أن يكون مصروفا إلى المصرف ، وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان ، فقال للطبيب : ماذا آكل ؟ فيقول الطبيب : كل في اليوم مرتين ، كان المعنى : كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا ههنا المعنى : أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك .