مسألة : ( ومن
لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج ، فيتحلل بطواف وسعي ، وينحر هديا إن كان معه ، وعليه القضاء ) .
في هذا الكلام فصول ، أحدها : أنه يجب على الرجل إذا أحرم بالحج أن
[ ص: 656 ] يقصد الوقوف
بعرفة في وقته ، ولا يجوز له التباطؤ حتى يفوته الحج ، فإن احتاج إلى سير شديد .... ، وإن لم يصل العشاء إلى آخر ليلة النحر ، وخاف إن نزل لها فاته الحج ، فقياس المذهب أنه يصلي صلاة الخائف ؛ لأن تفويت كل واحدة من العبادتين غير جائز ،
وفوات الحج أعظم ضررا في دينه ونفسه من فوت قتل كافر .
فإذا طلع الفجر ولم يواف
عرفة ، فقد فاته الحج ، سواء فاته لعذر من مرض ، أو عدو ، أو ضل الطريق ، أو أخطأ العدد ، أو أخطأ مسيره ، أو فاته بغير عذر كالتواني والتشاغل بما لا يعنيه ، لا يفترقان إلا في الإثم . وعلى من فاته أن يأتي بعمرة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر .
وأما الأفعال التي تخص الحج من الوقوف
بمزدلفة ومنى ورمي الجمار فقد سقطت ، هذا هو المعروف في المذهب الذي عليه أصحابنا ، وهو المنصوص عن
أحمد .
قال - في رواية
أبي طالب - : إذا فاته الحج تحلل بعمرة .
وقال - في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=13665الأثرم - فيمن قدم حاجا فطاف وسعى ثم مرض فحيل بينه وبين الحج حتى مضت أيامه : يحل بعمرة ، فقيل له : يجدد إهلالا فيمن
[ ص: 657 ] فاته الحج للعمرة أم يجزئه الإهلال الأول ؟ فقال : يجزئه الإهلال الأول .
وقد حكى
ابن أبي موسى - عنه - رواية ثانية : أنه يمضي في حج فاسد ، قال :
ومن فاته الحج بغير إحصار تحلل بعمرة في إحدى الروايتين ، وعليه الحج من قابل ودم الفوات ، فإن كان قد ساق هديا نحره ولم يجزه عن دم الفوات .
والرواية الأخرى : يمضي في حج فاسد ، ويحج من قابل ، وعليه دم الفوات .
وقال
أحمد - في رواية
ابن القاسم - في الذي يفوته الحج : يفرغ من عمله يعني عمل الحج ، وفسر القاضي هذا الكلام بأنه الطواف والسعي والحلق الذي يفعله الذي كان واجبا بالحج كأحد الوجهين - كما سيأتي - .
ومن فسره بإتمام الحج مطلقا على ظاهره ، قال : لأنه قد وجب عليه فعل جميع المناسك ، ففوات الوقوف
بعرفة لا يسقط ما أدرك وقته من المناسك ، كمن عجز عن بعض أركان الصلاة وقدر على بعض ، أكثر ما فيه أن الحج قد انتقض وفسد ، فأشبه من أفسده بالوطء فإنه يمضي في حج فاسد .
والصواب هو الأول ، لأن الله سبحانه قال : (
فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) الآية ، فأمرهم بالذكر عقب الإفاضة من
عرفات ، فمن لم يفض من
عرفات لم يكن مأمورا بالوقوف بالمشعر الحرام ، وما لا يؤمر به من أفعال الحج فهو منهي عنه كالوقوف
بعرفة في غير وقته .
ولأن الحكم المعلق بالشرط معدوم بعدمه ، فإذا علق الوقوف
بالمشعر الحرام بالإفاضة من
عرفة اقتضي عدمه عند عدم الإفاضة من
عرفات .
[ ص: 658 ] ولأن الآية تقتضي أنه مأمور بالذكر عند المشعر حين الإفاضة وعقبها ، فإذا بطل الوقت الذي أمر بالذكر عند المشعر الحرام فيه ، وبطل التعقيب كان قد فات وقت الوقف بالمشعر وشرطه ، وذلك يمنع الوقوف فيه ، ونظير هذا قوله : (
فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فإنها دليل على امتناع الطواف بهما من غير الحاج والمعتمر ؛ ولذلك لا يشرع الطواف
بالصفا والمروة إلا في حج أو عمرة ، بخلاف الطواف بالبيت ، فإنه عبادة منفردة أفردها بالذكر في قوله : (
أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) ، ثم قال بعد ذلك : (
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) إلى قوله : (
واذكروا الله في أيام معدودات ) ، فالأمر بالذكر كذكر الآباء والذكر في أيام معدودات هو بعد قضاء المناسك ، ومن لم يقف
بعرفة لم يقض مناسكه ، فبطل في حقه الذكر المأمور به الذي يتضمن التعجل والتأخر ، ولا يقال : واذكروا الله في أيام معدودات كلام مبتدأ .
وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16015865الحج عرفة ، من جاء من ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " .
فإذا لم يدرك
عرفة : فلا حج له ، بل قد فاته الحج ، ومن لا حج له لا يجوز أن
[ ص: 659 ] يفعل شيئا من أعمال الحج ؛ لأنه يكون في حج من لا حج له ، وهذا لا يجوز ، بخلاف المفسد ، فإنه في حج تام ، لأنه أدرك الوقوف لكن هو فاسد . وغير ممتنع انقسام العمل إلى صحيح وفاسد . أما أن يكون في حج من ليس في حج ، فهذا ممتنع ؛ ولهذا قلنا : إذا فاته الحج لم يفعل ما يختص بالحج من المواقف والرمي ، وإنما يفعل ما اشترك فيه الحج والعمرة من الطواف والحلق .
وأيضا : قوله : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، وقد وقف
بعرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا " .
وأيضا : فما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى عن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16015866من لم يدرك فعليه دم ويجعلها عمرة ، وعليه الحج من قابل " رواه
النجاد .
وهذا وإن كان مرسلا من مراسيل
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء ، فهو أعلم التابعين بالمناسك ، وهذا المرسل معه أقوال الصحابة ، وقول جماهير أهل العلم وظاهر القرآن ، وذلك يوجب كونه حجة وفاقا بين الفقهاء .
[ ص: 660 ] والعمدة الظاهرة إجماع الصحابة ، والتا .... ، فعن .... " أن
أبا أيوب بن زيد خرج حاجا حتى إذا كان بالنازية أضل رواحله فطلبهن ، فقدم وقد فاته الحج ، فسأل عمر فأمره أن يجعلها عمرة ويحج من عام المقبل ، وعليه ما استيسر من الهدي " .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16049سليمان بن يسار عن
هناد بن الأسود : " أنه أهل بالحج ، فقدم على
عمر - رضي الله عنه - يوم النحر ، وقد أخطأ العدد ، فقال : أهل بعمرة وطف بالبيت وبين
الصفا والمروة ، وقصر أو احلق ، وحج من قابل وأهرق دما " .
[ ص: 661 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13705الأسود عن
عمر وزيد قالا في رجل يفوته الحج : " يهل بعمرة ، عليه الحج من قابل " .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر كان يقول : " من
لم يقف بعرفة إلا بعد طلوع الفجر فقد فاته الحج ، وليجعلها عمرة ، وليحج قابلا ، وليهد إن وجد هديا ، وإلا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : " من فاته الحج فإنه يهل بعمرة وليس عليه الحج " رواهن
النجاد .