مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
( الفريضة ) الأولى غسل الوجه وفرضيتها ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وحده عرضا ما بين الأذنين وهذا [ ص: 184 ] أحسن من قولهم : من الأذن إلى الأذن للخلاف في الغاية هل هي داخلة في المغيا أم لا ؟ وما ذكره هو المشهور وقيل : من العذار إلى العذار رواه ابن وهب عن مالك في المجموعة وقيل : إن كان نقي الخد فكالأول وإلا فكالثاني . حكاه القاضي عبد الوهاب عن بعض المتأخرين وانفرد القاضي عبد الوهاب بأن غسل ما بين العذار والأذن سنة وضعفه ابن الحاجب ; لأنه إن كان من الوجه وجب وإلا سقط ولا يثبت كونه سنة إلا بدليل ولم يثبت فتحصل في ذلك أربعة أقوال وأن ما بين العذارين مجمع عليه ، ووجه القول الأول أن المواجهة تقع بالجميع فهو داخل في مسمى الوجه الثاني ، ووجهه أنه لا تقع به المواجهة غالبا . ووجه الثالث والرابع ظاهر قال في الجواهر : ومنشأ الخلاف التنازع في المواجهة هل تتناول ما اختلف فيه أم لا ؟ والعذار بالذال المعجمة الشعر النابت على العارض والعارض صفحة الخد .

( تنبيهات الأول ) ذكر ابن ناجي في شرح المدونة عن أبي عمران أنه قال : وانظر على القول بأنه إنما يغسل من العذار إلى العذار ، هل يدخل العذار أم لا ؟ والذي يظهر دخوله والله أعلم . قال ابن ناجي : قلت : الأظهر من كلامهم عدمه .

( قلت ) الظاهر ما قاله أبو عمران .

( الثاني ) قال اللخمي خفيف العذار كمن ليس له عذار وقبله ابن عرفة .

( الثالث ) على قول القاضي عبد الوهاب : إن غسل ما بين العذار والأذن سنة فيغسله مع الوجه ولا يفرده بالغسل قاله في الطراز . قال : والفرق بينه وبين مسح الأذن حيث طلب لها تجديد الماء أن إفراده بالغسل يؤدي إلى التكرار في غسل الوجه ثم ذكر المصنف حد الوجه طولا فقال : ومنابت شعر الرأس المعتاد والذقن وظاهر اللحية . يعني أن حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس المعتاد إلى منتهى الذقن في حق من ليست له لحية وأما من له لحية فيغسل ظاهرها ولو طالت . والذقن بفتح الذال المعجمة والقاف مجمع اللحيين بفتح اللام وسكون الحاء تثنية لحي بفتح اللام وسكون الحاء أيضا ، وحكي كسر اللام في المفرد والمثنى واللحي العظم الذي تنبت فيه اللحية . هكذا فسره الجوهري والفاكهاني وغيرهم وقال بعضهم : هو العظم الذي تنبت فيه الأسنان السفلى وتنبت اللحية على ظاهره ، وما أدري لم قيدوه بالأسنان السفلى وقد قالوا في باب الجراح : اللحي الأعلى واللحي الأسفل ، وفرقوا بينهما في أحكام الجراح إلا أن يكون مرادهم تفسير اللحي الذي هو مفرد اللحيين اللذان أخذا في تفسير الذقن فتأمله والله تعالى أعلم . وكسر اللام في اللحية أفصح من فتحها ، وتسمية اللحية دقنا بالدال المهملة كما تقوله العامة لم أقف له على أصل في اللغة .

( تنبيهات الأول ) قوله : ومنابت شعر الرأس المعتاد والذقن إن جعلناه معطوفا على الأذنين على أن المعنى وما بين شعر الرأس المعتاد والذقن اقتضى كلامه خروج الذقن من حد الوجه ، وقد قال الفاكهاني لا خلاف أن الذقن داخل في غسل الوجه وليس فيه ما في المرفق من الخلاف ، وإن جعلناه معطوفا على " ما " من قوله : غسل على ما قال البساطي لزم عليه ما هو أفحش من الأول وهو أن يكون الفرض غسلهما فقط .

( قلت ) قد يقال على هذا الوجه الثاني : إن غسل ما بين الأذنين مع غسل منابت شعر الرأس والذقن يستكمل غسل جميع الوجه غير أنه يقتضي أن منابت شعر الرأس من الوجه وليست منه ، ويمكن أن يقال : قوله : ومنابت شعر الرأس معطوف على الأذنين ، وقوله : والذقن وظاهر اللحية معطوفان على ما ، والمعنى أن حد الوجه هو ما بين الثلاثة أعني الأذنين ومنابت شعر الرأس فيغسل ذلك مع الذقن إن لم تكن له لحية وإن كانت له لحية فيغسل ذلك مع غسل ظاهرها .

( الثاني ) قوله : منابت شعر الرأس المعتاد يعني التي من شأنها في العادة أن ينبت فيها شعر الرأس واحترز بذلك من الغمم بفتح الغين المعجمة وميمين [ ص: 185 ] وهو نبات الشعر على الجبهة فإنه يجب غسل موضع ذلك ، يقال : رجل غم وامرأة غماء والعرب تذم به وتمدح بالنزع ; لأن الغمم يدل على البلادة والجبن والبخل والنزع بضد ذلك قال

: فلا تنكحي إن فرق الله بيننا أغم القفا والوجه ليس بأنزعا

قال الفاكهاني والجبهة ما أصاب الأرض في حال السجود والجبينان ما أحاط بها من يمين وشمال والعارضان والعنفقة وأهداب العين والشارب كل ذلك من الوجه فما كان كثيف الشعر غسل ظاهره ولم يجب إيصال الماء إلى البشرة ، وقيل : يجب ، وما كان خفيفا وجب إيصال الماء إلى البشرة انتهى . وفي سماع سحنون .

( قلت ) له وما حد الوجه الذي إذا قصر عنه المتوضئ أعاد فقال لي : دور الوجه .

( قلت ) فاللحي الأسفل من ذلك والذقن ؟ قال : نعم . فأخبرته بقول من قال : إن اللحي الأسفل ليس من الوجه ; لأن مالكا قال : ليس فيه موضحة ، فقال : أخطأ من يقول هذا قد قال مالك : إن الأنف لا موضحة فيه ، قال ابن رشد : وهذا كما قال . واللحي الأعلى والأسفل في وجوب الغسل في الوضوء سواء وكذلك الذقن وليس عليه أن يغسل ما تحته وهذا مما لا أعلم فيه خلافا وفي النوادر وليس عليه غسل ما تحت ذقنه وما تحت اللحي الأسفل وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد : ولا يجب غسل ما تحت الذقن اتفاقا قاله ابن رشد ، ونحوه في شرحه للرسالة وزاد فيه : ولقد رأيت شيخ المالكية نور الدين السنهوري يغسله وهو من العلماء العاملين فلا أدري لورع أو غيره انتهى . وقال في الطراز : واللحي الأسفل من الوجه . قاله سحنون في العتبية وقال التونسي : ليس من الوجه انتهى . واحترز به أيضا من الصلع بالصاد المهملة وهو خلو الناصية من الشعر ، والناصية مقدم الرأس فلا تدخل في حد الوجه وكذلك النزعتان كما قاله في الجواهر وغيرها والنزعتان بفتح الزاي والعين تثنية نزعة بفتحهما أيضا وهما بياضان يكتنفان الناصية . وقال في الذخيرة : هما الخاليتان من الشعر على جنبي الجبين الذاهبتين على جنبي اليافوخ وقال النووي : هما بياضان يكتنفان الناصية فهما من الرأس ويقال لهما الجلحتان من الجلح بفتح الجيم واللام ، وفي الصحاح رجل أنزع بين النزع وهو الذي انحسر عن جانبي جبهته وموضعه النزعة وهما النزعتان قاله في باب العين المهملة ، وقال في فصل الجيم من باب الحاء المهملة الجلح فوق النزع وهو انحسار الشعر عن جانبي الرأس ، أوله النزع ثم الجلح ثم الصلع وقد جلح بالكسر فهو أجلح بين الجلح واسم ذلك الموضع الجلحة ، وقال سند : النزعتان من الرأس وهما الجلحتان ; لأنهما في سمت الناصية وما يلي الجلحتين إلى الصدغين من الرأس انتهى فيفهم منه أن الشعر الذي في الصدغين من الرأس لا من الوجه . قال في المنتقى : وقد حكى الشيخ أبو محمد في نوادره أن شعر الصدغين من الرأس يدخل في المسح ومعناه عندي من فوق العظم من حيث يعرض الصدغ من جهة الرأس ; لأن ذلك الموضع يحلقه المحرم وأما ما دون ذلك فليس من الرأس . وحكى القاضي أبو محمد إذا كان شعر العارضين من الخفة بحيث لا يستر البشرة لزم إيصال الماء إلى البشرة ، وهذا يقتضي أن العارضين من الوجه ، ومعنى ذلك عندي من موضع العظم وحيث يبتدئ نبات الشعر من جهة الوجه انتهى .

وقال اللخمي : النزعتان من الرأس يمسحان ولا يغسلان وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وشعر الصدغين من الرأس ما لم يكن داخل منه في دور الوجه فإنه يغسل ; لأنه من الوجه ا هـ وقال الفاكهاني : الموضع الثاني من المواضع المختلف فيها موضع التحذيف وهو الشعر الذي بين ابتداء العذار والنزعة وهو الداخل إلى الجبين من جانبي الوجه فالصحيح أن ذلك من الرأس ، قال ابن الصباغ : [ ص: 186 ] وحكي عن أبي العباس وابن أبي هريرة من الشافعية أنه من الوجه ; لأن العادة فيه التحذيف وهو ضعيف ; لأنه شعر متصل بشعر الرأس ولا اعتبار بالعادة إذ لم يجعله أهل اللغة من الوجه انتهى . ويريد ما لم يدخل في الجبين جدا ويجاوز الحد المعتاد من ذلك كما يشير إليه كلام اللخمي السابق وقال الشافعية في تفسير موضع التحذيف : هو بالذال المعجمة ما ينبت عليه الشعر الخفيف متصلا بالصدغ وضابطه أن يضع طرف خيط على طرف الأذن ، والطرف الثاني على أعلى الجبهة فما نزل عنه إلى جانب الوجه فهو موضع التحذيف وسمي بذلك ; لأن النساء والأشراف يحذفون الشعر عنه ليتسع الوجه .

قال النووي في منهاجه : صحح الجمهور أن موضع التحذيف من الرأس فعلم من هذا أن الشعر الذي في الصدغين ليس من الوجه إلا ما كان داخلا من ذلك في دور الوجه كالأغم كما يفهم من كلام اللخمي . إذا علم ذلك فما استشكله ابن عبد السلام لا إشكال فيه فإنه قال : ولم يبينوا في المذهب حد الوجه من جهة الأذن إلى طرف الجبهة سوى ما تقدم من منابت الشعر المعتاد وفي تلك الجهة ينبت الشعر عادة لغير الأغم ، فإن نظرنا إلى ما حددوه في الطول لم يدخل وإن نظرنا إلى ما حدوده في العرض على قول من يحده من الأذن إلى الأذن دخل ، وللشافعية فيه اضطراب ، والنفس أميل إلى دخوله انتهى . وقد علم مما تقدم أنه ليس من الوجه لكن قال صاحب الجمع : ويمكن أن يقال : العادة جارية بغسله إما على أن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب أو على أنه مطلوب لنفسه وقد علم أنه ليس من الوجه فتحصل من هذا أن حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس المعتاد سواء في الجبهة أو في الصدغ إلى آخر الذقن وعرضا من الأذن إلى الأذن ، وليس وتدا الأذن منه ، ومنه البياض الذي بين العذار والأذن ، وطرف اللحي الأسفل الخارج من تحت الأذن في سمت الأذن كما يفهم من قول صاحب الطراز ، وأخرج منه القاضي عبد الوهاب البياض الذي بين الصدغ والأذن واللحيين الخارجين من تحت الأذن في سمت الأذن فجعل ذلك من الوجه وأن القاضي أخرجه منه وقد تقدم عن البيان أن اللحي الأسفل من الوجه . واعلم أن الصدغ بضم الصاد المهملة وسكون الدال المهملة وآخره غين معجمة هو ما بين العين والأذن كذا فسره في الصحاح ، وبه فسره الفاكهاني في شرح الرسالة ، فإذا كان كذلك فما كان منه دون العظم الناتئ فهو من الوجه وما كان فوقه فهو من الرأس ، وقولهم : يجب غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن يعنون به ما كان تحت العظم الناتئ والله تعالى أعلم .

( الثالث ) قوله : وظاهر اللحية يعني أنه يجب عليه غسل ظاهر اللحية ولو طالت . قال ابن رشد في سماع سحنون من كتاب الطهارة : وهذا هو المعلوم من مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها ، وقيل : ليس عليه أن يغسل من لحيته إلا ما اتصل منها بوجهه لا ما طال منها وهو ظاهر ما في سماع موسى عن ابن القاسم عن مالك انتهى . ونقل الخلاف في ذلك صاحب الطراز وغيره ونقل ابن عرفة كلام ابن رشد وجزم بنسبة الثاني لسماع موسى قال : وقاله الأبهري وله نحو ذلك في مسح ما طال من شعر الرأس وأنه لا يجب إلا ما حاذى الممسوح من الرأس . قال ابن راشد : وخرج بعضهم الخلاف على قاعدة وهي هل يعتبر الأصل فيجب أو يعتبر المحاذى وهو الصدر فلا يجب ؟ وقال ابن هارون : واعتبار الأصل أولى ، والمراد بغسل ظاهر اللحية إمرار اليد عليها مع الماء وتحريكها . قال في المدونة : ويحرك اللحية في الوضوء ويمر يده عليها من غير تخليل قال ابن ناجي : لا خلاف أن التحريك لا بد منه . وقال سند : إذا قلنا : لا يجب تخليلها فلا بد من إمرار الماء عليها مع اليد ويحرك يده عليها ; لأن الشعر ينبو بعضه عن بعض [ ص: 187 ] فيمنع بعضه وصول الماء إلى بعض فإذا حرك ذلك حصل استيعاب جميع ظاهره انتهى . وهذا التحريك غير التخليل ; لأنه لا خلاف فيه وسيأتي الخلاف في التخليل ، وقال أبو الحسن قال في النوادر : وصفة التحريك هو أن يدافع ما انصب من الماء عليها حتى يداخلها من غير تخليل بالأصابع : ولفظ النوادر قال بعض أصحابنا : معنى تحريكها تحريك اليد عليها عند مرور اليد عليها ليداخلها الماء ; لأن الشعر ينبو عنه الماء انتهى . وقوله : ينبو أي يندفع ويتباعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية