[ ص: 1811 ] تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون
ذكر كثير من المفسرين، رحمهم الله ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن أبي بلتعة، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزاة الفتح، فكتب
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب إلى المشركين يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ليتخذ بذلك يدا
[ ص: 1812 ] عندهم لا شكا و نفاقا، وأرسله مع امرأة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب.
وعاتب
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطبا، فاعتذر بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيات فيها
النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم، وإلقاء المودة إليهم، وأن ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة
إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه، فقال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اعملوا بمقتضى إيمانكم، من ولاية من قام بالإيمان، ومعاداة من عاداه، فإنه عدو لله، وعدو للمؤمنين.
فلا تتخذوا عدو الله
وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة أي: تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها، فإن المودة إذا حصلت، تبعتها النصرة والموالاة، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفران، وانفصل عن أهل الإيمان.
وهذا المتخذ للكافر وليا، عادم المروءة أيضا، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير، ويأمره به، ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى.
والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله، بل مجرد العلم بالحق يدل على بطلان قول من رده وفساده.
ومن عداوتهم البليغة أنهم
يخرجون الرسول وإياكم أيها المؤمنون من دياركم، ويشردونكم من أوطانكم، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته، لأنه رباهم، وأنعم عليهم، بالنعم الظاهرة والباطنة، وهو الله تعالى.
فلما أعرضوا عن هذا الأمر، الذي هو أوجب الواجبات، وقمتم به، عادوكم، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم، فأي دين، وأي مروءة وعقل، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان
[ ص: 1813 ] أو مكان؟!! ولا يمنعهم منه إلا خوف، أو مانع قوي.
إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي أي: إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وابتغاء رضاه فاعملوا بمقتضى هذا، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، فإن هذا من أعظم الجهاد في سبيله ومن أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه.
تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم أي: كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون؟!، فهو وإن خفي على المؤمنين، فلا يخفى على الله تعالى، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر،
ومن يفعله منكم أي: موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها
فقد ضل سواء السبيل لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية.
ثم بين تعالى شدة عداوتهم، تهييجا للمؤمنين على عداوتهم،
إن يثقفوكم أي: يجدوكم، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم،
يكونوا لكم أعداء ظاهرين
ويبسطوا إليكم أيديهم بالقتل والضرب، ونحو ذلك.
وألسنتهم بالسوء أي: بالقول الذي يسوء، من شتم وغيره،
وودوا لو تكفرون فإن هذا غاية ما يريدون منكم.
فإن احتججتم وقلتم: نوالي الكفار لأجل القرابة والأموال، فلن تغني عنكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئا.
والله بما تعملون بصير فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الذين تضركم موالاتهم، قد كان لكم يا معشر المؤمنين
أسوة حسنة أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم،
في إبراهيم والذين معه من المؤمنين، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة
إبراهيم حنيفا،
إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله أي: إذ تبرأ
إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله.
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح، فقالوا:
كفرنا بكم وبدا أي: ظهر وبان
بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أي: البغض
[ ص: 1814 ] بالقلوب، وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك
أبدا ما دمتم مستمرين على كفركم
حتى تؤمنوا بالله وحده أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد، ولوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده،
إلا في خصلة واحدة وهي
قول إبراهيم لأبيه آزر المشرك، الكافر المعاند، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد، فامتنع، فقال إبراهيم :
لأستغفرن لك و ) الحال أني لا
أملك لك من الله من شيء لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا، فليس لكم أن تقتدوا
بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك، فليس لكم أن تدعوا للمشركين، وتقولوا: إنا في ذلك متبعون لملة
إبراهيم، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه الآية ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه، واعترفوا بالعجز والتقصير، فقالوا:
ربنا عليك توكلنا أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك.
وإليك أنبنا أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك، فنحن في ذلك ساعون، وبفعل الخيرات مجتهدون، ونعلم أنا إليك نصير، فسنستعد للقدوم عليك، ونعمل ما يزلفنا إليك .
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا أي: لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان، ويفتنون أيضا بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا أنهم على الحق وأنا على الباطل، فازدادوا كفرا وطغيانا،
واغفر لنا ما اقترفنا من الذنوب والسيئات، وما قصرنا به من المأمورات،
ربنا إنك أنت العزيز القاهر لكل شيء،
الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا، واغفر لنا ذنوبنا، وأصلح عيوبنا.
[ ص: 1815 ] ثم كرر الحث لهم على الاقتداء بهم، فقال:
لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة، وإنما تسهل على من
كان يرجو الله واليوم الآخر فإن
الإيمان واحتساب الأجر والثواب، يسهل على العبد كل عسير، ويقلل لديه كل كثير، ويوجب له الإكثار من الاقتداء بعباد الله الصالحين، والأنبياء والمرسلين، فإنه يرى نفسه مفتقرا ومضطرا إلى ذلك غاية الاضطرار.
ومن يتول عن طاعة الله والتأسي برسل الله، فلن يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا،
فإن الله هو الغني الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه ،
الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فإنه محمود على ذلك كله.
ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر الله بها المؤمنين للمشركين، ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم، وأنهم إن انتقلوا إلى الإيمان، فإن الحكم يدور مع علته، والمودة الإيمانية ترجع، فلا تيأسوا أيها المؤمنون، من رجوعهم إلى الإيمان،
فعسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة سببها رجوعهم إلى الإيمان،
والله قدير على كل شيء، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال،
والله غفور رحيم لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يكبر عليه عيب أن يستره،
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وفي هذه الآية إشارة وبشارة بإسلام بعض المشركين، الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين، وقد وقع ذلك، ولله الحمد والمنة.
ولما نزلت هذه الآيات الكريمات، المهيجة على عداوة الكافرين، وقعت من المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه.
فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم
[ ص: 1816 ] وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا تبعة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما:
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا
وقوله:
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين أي: لأجل دينكم، عداوة لدين الله ولمن قام به،
وأخرجوكم من دياركم وظاهروا أي: عاونوا غيرهم
على إخراجكم نهاكم الله
أن تولوهم بالمودة والنصرة، بالقول والفعل، وأما بركم وإحسانكم، الذي ليس بتول للمشركين، فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين، وغيرهم.
ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليا تاما، صار ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ، وما هو دونه.