وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير أنه سئل عن الجد والإخوة ، فقال : أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33675لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا } فإنه أنزله أبا ، وهذا
[ ص: 142 ] ظاهر في تقليده له ، وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد ، وذلك تقليد له ، وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد ، وذلك تقليد محض . وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد ، وذلك تقليد محض لهؤلاء . وأجمعوا على جواز
شراء اللحمان والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها ، ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا ، والقدر قد منع من وقوعه .
وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته وجواز وطئها تقليدا لهن في كونها هي زوجته .
وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة ، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة ، وما يصح به الاقتداء . وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد ، ويباح للمولى تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها ، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات ، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل . {
nindex.php?page=hadith&LINKID=41769وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث : أرضعتك وأرضعت امرأتك ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك } . وقد صرح الأئمة بجواز التقليد ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15730حفص بن غياث ، سمعت
سفيان يقول : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد من هو مثله . وقد صرح
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بالتقليد فقال : في الضبع بعير ، قلته تقليدا
nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر . وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب : قلته تقليدا
nindex.php?page=showalam&ids=7لعثمان . وقال في مسألة الجد مع الإخوة : إنه يقاسمهم ، ثم قال : وإنما قلت بقول
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد ، وعنه قبلنا أكثر الفرائض . وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد : قلته تقليدا
nindex.php?page=showalam&ids=16568لعطاء .
[ ص: 143 ] وهذا
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة رحمه الله قال في مسائل الآبار : ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها . وهذا
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا ، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا . ويقول في غير موضع : ما رأيت أحدا أقتدي به يفعله . ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال . وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الصحابة : رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ، ونحن نقول ونصدق أن رأي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا . وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ، ولا تقوم مصالح الخلق ، إلا بهذا ، وذلك عام في كل علم وصناعة ، وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان ، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها ; ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء ، بل جعل سبحانه هذا عالما ، وهذا متعلما ، وهذا متبعا للعالم مؤتما به ، بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع ، وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله ؟ وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق ، فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها ؟ وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا ؟ وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد ، وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه ، ولا يقولون له : عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ، ولا يعرف ذلك عن أحد منهم ألبتة ، وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود فهو من لوازم الشرع والقدر . والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد ، وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها . ونقول لمن احتج على إبطاله : كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها ; إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم ، فليس بيدك إلا تقليد الراوي ، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد ، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم ، فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم ، وهذا سمع بأذنه ما رواه ، وهذا عقل بقلبه ما سمعه ، فأدى هذا مسموعه ، وأدى هذا معقوله ، وفرض على هذا تأدية ما سمعه ، وعلى هذا تأدية ما عقله ، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القول منهما ؟ ثم يقال للمانعين من التقليد : أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون
[ ص: 144 ] من قلده مخطئا في فتواه ، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق . ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه ، وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها ، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه ، وهذا متفق عليه بين العقلاء .
قال أصحاب الحجة : عجبا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله ، كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم ؟ فما للمقلد وما للاستدلال ؟ وأين منصب المقلد من منصب المستدل ؟ وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس ؟ وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تعطوه ، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه ؟ وذلك ثوب زور لبستموه ، ومنصب لستم من أهله غصبتموه ، فأخبرونا : هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه ، وبرهان دلكم عليه ، فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل ، وكنتم به عن التقليد بمعزل ، أم سلكتم سبيله اتفاقا وتخمينا من غير دليل ؟ وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل ، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم ، ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلت : لسنا من أهل هذه السبيل ، وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل . والعجب أن كل طائفة من الطوائف ، وكل أمة من الأمم تدعي أنها على حق ، حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك ، ولو ادعوه لكانوا مبطلين ، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه ، وبرهان دلهم عليه ، وإنما سبيلهم محض التقليد ، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ، ولا الحالي من العاطل . وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم ، وقالوا : نحن على مذاهبهم ، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه ، فإنهم بنوا على الحجة ، ونهوا عن التقليد ، وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه ، فخالفوهم في ذلك كله ، وقالوا : نحن من أتباعهم ، تلك أمانيهم ، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم ، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم .
وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه ، وأنه لا يحل القول به في دين الله ، ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ، ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط ، وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء
[ ص: 145 ] بما لا يعلم صحته باتفاق الناس ، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده ; إذ طريق ذلك مسدودة عليه ، ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ، ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره ، وهذا من أعجب العجب .
وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئا ، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا . ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين ، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال ، ويحرمونها ، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ ، على خطر عظيم ، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء . وأيضا فنقول لكل من قلد واحدا من الناس دون غيره : ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره ؟ فإن قال : " لأنه أعلم أهل عصره "
وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه ، قيل له : وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته ؟ فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها من مرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم ؟ ، وهذا أيضا باب آخر من القول على الله بلا علم ، ويقال له ثانيا
nindex.php?page=showalam&ids=1فأبو بكر الصديق nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود وأبي بن كعب nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل وعائشة nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر رضي الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك ، فهلا قلدتهم وتركته ؟ بل
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب والشعبي nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك ، فلم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه ؟ فإن قال : " لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني ، فتقليدي له أوجب علي مخالفة قوله لقول من قلدته ; لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء " قيل له : ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه من هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره ؟ وقولان معا متناقضان لا يكونان صوابا ، بل أحدهما هو الصواب ، ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه . فإن قلت : " علمت ذلك بالدليل " فههنا إذا قد انتقلت
[ ص: 146 ] عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال ، وأبطلت التقليد . ثم يقال لك ثالثا : هذا لا ينفعك شيئا ألبتة فيما اختلف فيه ، فإن من قلدته ومن قلده غيرك قد اختلفا ، وصار من قلده غيرك إلى موافقة
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر أو
nindex.php?page=showalam&ids=8علي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أو
عائشة وغيرهم دون من قلدته ، فهلا نصحت نفسك وهديت لرشدك وقلت : هذان عالمان كبيران ، ومع أحدهما من ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه . ويقال له رابعا إمام بإمام ، ويسلم قول الصحابي ، فيكون أولى بالتقليد . ويقال خامسا : إذا جاز أن يظفر من قلدته بعلم خفي على
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود وذويهم فأحق وأحق وأجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خفي عليه هو ; فإن النسبة بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب بكثير من النسبة بين من قلدته وبين الصحابة والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة .
ويقال سادسا : إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه ؟ وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت ؟ ويقال سابعا : هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة ؟ فإن قال : " نعم " قال ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه ، وإن قال : " لا " فقد كفانا مؤنته ، وشهد على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه .
ويقال ثامنا : تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده ; فإنه نهاك عن ذلك ، وقال : لا يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله ، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء ، فإن كنت مقلدا له في جميع مذهبه فهذا من مذهبه ، فهلا اتبعته فيه ؟
ويقال تاسعا : هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أولى بالصواب من سائر من رغبت من قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة ؟ فإن قال : " أنا على بصيرة " قال : ما يعلم بطلانه ، وإن قال : " لست على بصيرة " وهو الحق قيل له : فما عذرك غدا بين يدي الله حين لا ينفعك من قلدته بحسنة واحدة ، ولا يحمل عنك سيئة واحدة ، إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه ، هل هو صواب أم خطأ ؟ ويقال عاشرا : هل تدعي عصمة متبوعك أو تجوز عليه الخطأ ؟ والأول لا سبيل إليه ، بل تقر ببطلانه ; فتعين الثاني ، وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الفروج وتنقل الأموال وتضر الأبشار بقول من أنت مقر بجواز كونه مخطئا .
ويقال حادي عشر : هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته : إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه ؟ أو تقول : إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه ؟ أو تقول : لا أدري ؟ ولا بد لك من قول من هذه الأقوال ، ولا سبيل لك إلى
[ ص: 147 ] الأول قطعا ; فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته ، وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين ، والثاني لا تدعيه ، فليس لك ملجأ إلا الثالث ، فيا لله العجب ، كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها " لا أدري " ؟ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم .
ويقال ثاني عشر : على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع ؟ وليتكم اقتصرتم على ذلك ، بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع ، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو على ضلالة ؟ فلا بد من أن تقروا بأنهم كانوا على هدى ، فيقال لهم : فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار ، وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها ، والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان ، وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تؤفكون ؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين ، وكذلك يقولون : صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف ، واقتفى مناهجهم ، وسلك سبيلهم ، قيل لهم : فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع وحرمه من عداه ؟ فلا بد من واحد من الأمرين ، فإن قالوا بالثاني فهم أضل سبيلا من الأنعام ، وإن قالوا بالأول فيقال : فكيف وفقتم لقبول قول صاحبكم كله ، ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله ، فلا يرد لهذا قول ، ولا يقبل لهذا قول ، حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على من خالفه ، ولهذا أنتم موكلون بنصرته في كل ما قاله ، وبالرد على من خالفه في كل ما قاله ، وهذه حال الفرقة الأخرى معكم .
ويقال ثالث عشر : فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم فأنتم أول مخالف لهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل ، يحمل حزمة حطب ، وفيه أفعى تلدغه ، وهو لا يدري . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول بقولنا ، حتى يعلم من أين قلناه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : لا تقلد دينك أحدا .
ويقال رابع عشر : هل أنتم موقنون بأنكم غدا موقوفون بين يدي الله ، وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم ، وعما أفتيتم به في دينه محرمين ومحللين وموجبين ؟ فمن قولهم : " نحن موقنون بذلك " فيقال لهم : فإذا سألكم : " من أين قلتم ذلك ؟ " فماذا جوابكم ؟ فإن قلتم : " جوابنا إنا حللنا وحرمنا وقضينا بما في كتاب الأصل
nindex.php?page=showalam&ids=16908لمحمد بن الحسن مما رواه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف من رأي واختيار ، وبما في المدونة
[ ص: 148 ] من رواية
سحنون عن
ابن القاسم من رأي واختيار ، وبما في الأم من رواية
الربيع من رأي واختيار ، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار ، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سمت هممكم نحوه ، بل نزلتم عن ذلك طبقات ، فإذا سئلتم : هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي ؟ فماذا يكون جوابكم إذا ؟ فإن أمكنكم حينئذ أن تقولوا " فعلنا ما أمرتنا به وأمرنا به رسولك " فزتم وتخلصتم ، وإن لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا : لم تأمرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا ، ولا بد من أحد الجوابين ، وكأن قد .
ويقال خامس عشر : إذا نزل
عيسى ابن مريم إماما عدلا وحكما مقسطا ، فبمذهب من يحكم ؟ وبرأي من يقضي ؟ ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم التي شرعها الله لعباده ; فذلك الذي يقضي به أحق ، وأولى الناس به
عيسى ابن مريم هو الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا ، ولا يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه ألبتة . فإن قلتم : نحن وأنتم في هذا السؤال سواء ، قيل : أجل ، ولكن نفترق في الجواب فنقول : يا ربنا إنك تعلم أنا لم نجعل أحدا من الناس عيارا على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك ، ونرد ما تنازعنا فيه إليه ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك ، وكان الخلق عندنا أهون أن نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك ، بل أفتينا بما وجدناه في كتابك ، وبما وصل إلينا من سنة رسولك وبما أفتى به من أصحاب نبيك ، وإن عدلنا عن ذلك فخطأ منا لا عمد ، ولم نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وليجة ، ولم نفرق ديننا ونكون شيعا ، ولم نقطع أمرنا بيننا زبرا . وجعلنا أئمتنا قدوة لنا ، ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك ، وقلدناهم فيه ، إذ أمرتنا أنت وأمرنا رسولك بأن نسمع منهم ، ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك ، فسمعا لك ولرسولك وطاعة ، ولم نتخذهم أربابا نتحاكم إلى أقوالهم ، ونخاصم بها ، ونوالي ونعادي عليها ، بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك ، فما وافقهما قبلناه ، وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه ، وإن كانوا أعلم منا بك وبرسولك ، فمن وافق قوله قول رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة ، فهذا جوابنا ، ونحن نناشدكم الله : هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي من لا يبدل القول لديه ، ولا يروج الباطل عليه ؟
ويقال سادس عشر : كل طائفة منكم معاشر طوائف المقلدين ، قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا من قلدتموه في مكان من لا يعتد بقوله ، ولا ينظر في فتاواه ، ولا يشتغل بها ، ولا يعتد بها ، ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل وإعمال الفكر وكده في الرد عليهم
[ ص: 149 ] إذا خالف قولهم قول متبوعهم ، وهذا هو المسوغ للرد عليهم عندهم ، فإذا خالف قول متبوعهم نصا عن الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته ، والتحيل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم ، فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بأعلامه ويذب عنه ، فمن أسوأ ثناء على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين ، وأشد استخفافا بحقوقهم ، وأقل رعاية لواجبهم ، وأعظم استهانة بهم ، ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم ، ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله ؟ ،
ويقال سابع عشر : من أعجب أمركم أيها المقلدون أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله ، مع سهولته وقرب مأخذه ، واستيلائه على أقصى غايات البيان ، واستحالة التناقض والاختلاف عليه ; فهو نقل مصدق عن قائل معصوم ، وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق وبين لعباده ما يتقون ، فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتولى بيانه ، ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره ، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه وهلم جرا ، وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم ، فعجبا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق ، ولم يهتد إليها ، واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ، ولم ينصب الله على ذلك دليلا واحدا .
ويقال ثامن عشر : أعجب من هذا كله من شأنكم معاشر المقلدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها ، والعمدة في نفس الأمر على ما قاله ، لا على الآية ، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها ، وتطلبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه ، وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء ، وإذا وجدتم حديثا صحيحا يوافق قوله أخذتم به ، وقلتم : " لنا قوله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت " ، وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ، ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون : لنا قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، وإذا وجدتم مرسلا قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك ، وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها ، وقلتم : لا نأخذ بالمرسل .
ويقال تاسع عشر : أعجب من هذا كله أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلا كان أو مسندا موافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكما يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك
[ ص: 150 ] الحكم ، وهو حديث واحد ، وكأن الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه ، وليس بحجة فيما خالف رأيه . ولنذكر من هذا طرفا فإنه من عجيب أمرهم .