الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الأقوال لا تنحصر وقائلوها غير معصومين ]

الوجه السابع والعشرون : أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ، ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا ; فلا يكون اتفاقهم إلا حقا ، ومن المحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر ، ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ ، ولم يقم لنا دليلا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر ، بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله .

هذا محال أن يشرعه الله أو يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولا والآخر كاذبا على الله فالفرض حينئذ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم .

[ العلم يقال ]

الوجه الثامن والعشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ } وأخبر أن العلم يقل ، فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق ، ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها ، ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت .

ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة ، والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه ، وشهرتها في الناس خلاف الغربة ، بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره ; فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور ، وهو خلاف ما أخبر به الصادق .

[ ص: 163 ] الوجه التاسع والعشرون : أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ، بل هو حق يصدق بعضه بعضا ، ويشهد بعضه لبعض ، وقد قال تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .

الوجه الثلاثون : أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدا دون عمرو ، بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين ، فإن كان قول من قلده أولا هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه ، وهذا محال .

وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق .

وإن قلتم : " القولان المتضادان المتناقضان حق " فهو أشد إحالة ، ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة .

الوجه الحادي والثلاثون : أن يقال للمقلد : بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده ؟ فإن قال " عرفته بالدليل " فليس بمقلد ، وإن قال : " عرفته تقليدا له ; فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق " قيل له : أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ ؟ فإن قال بعصمته أبطل ، وإن جوز عليه الخطأ قيل له : فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره ؟ فإن قال : وإن أخطأ فهو مأجور ، قيل : أجل هو مأجور لاجتهاده ، وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر ، بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذا مأزور .

فإن قال : كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه ؟ وهل يعقل هذا ؟ قيل له : المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد ، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا ، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا . وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده ، فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصواب ; وإن قال وهو الواقع : اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو أم لا ، فالعهدة على القائل ، وأنا حاك لأقواله ، قيل له : فهل تتخلص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به ، فوالله إن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به ، وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية