855 17 - باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
قال ابن القيم رحمه الله: عقب حديث المسيء صلاته وغيره من الأحاديث الواردة في الباب -: فصل في سياق صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان اتفاق [ ص: 225 ] الأحاديث فيها، وغلط من ظن أن التخفيف الوارد فيها هو التخفيف الذي اعتاده سراق الصلاة والنقارون لها:
وروى nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هذا الحديث وقال فيه: nindex.php?page=hadith&LINKID=650750ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء . ولا شك أن القيام: قيام القراءة وقعود التشهد يزيدان في الطول على بقية الأركان. ولما كان صلى الله عليه وسلم يوجز القيام ويستوفي بقية الأركان صارت صلاته قريبا من السواء. فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى.
[ ص: 226 ] nindex.php?page=showalam&ids=48والبراء تارة قرب ولم يحدد، فلم يذكر القيام والقعود، وتارة استثنى وحدد، فاحتاج إلى ذكر القيام والقعود.
وقد غلط بعضهم حيث فهم من استثناء القيام والقعود أنه استثنى القيام من الركوع والقعود بين السجدتين، فإنه كان يخففهما فلم يكونا قريبا من بقية الأركان. فإنهما ركنان قصيران.
وهذا من سوء الفهم، فإن سياق الحديث يبطله، فإنه قد ذكر هذين الركنين بأعيانهما، فكيف يذكرهما مع بقية الأركان.
ويخبر عنهما بأنهما مساويان لها، ثم يستثنيهما منها؟ وهل هذا إلا بمنزلة قول القائل: قام زيد وعمرو وبكر وخالد إلا زيدا وعمرا ؟! وقد ثبت تطويل هذين الركنين عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث صحيحة صريحة، أحدها: هذا.
فجمع nindex.php?page=showalam&ids=9أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار عن إيجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وإتمامها، وأن من إتمامها إطالة الاعتدالين جدا، كما أخبر به.
وقد أخبر أنه ما رأى أوجز صلاة منها ولا أتم، فيشبه - والله أعلم - أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام، والإتمام إلى الركوع والسجود وركني الاعتدال، فبهذا تصير الصلاة تامة موجزة، فيصدق قوله nindex.php?page=hadith&LINKID=693258ما رأيت أوجز منها ولا أتم . ويطابق هذا حديث nindex.php?page=showalam&ids=48البراء المتقدم.
وهذا يبين أن إطالة ركني الاعتدال مما ضيع من عهد ثابت. ولهذا قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=650778فكان nindex.php?page=showalam&ids=9أنس يصنع شيئا لا أراكم تفعلونه . وهذا والله أعلم مما أنكره nindex.php?page=showalam&ids=9أنس مما أحدث الناس في الصلاة حيث قال: ما أعلم شيئا مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: ولا الصلاة ؟ قال: أوليس قد أحدثتم فيها ما أحدثتم ؟ . فقول ثابت أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل nindex.php?page=showalam&ids=9أنس، وقول nindex.php?page=showalam&ids=9أنس: إنكم قد أحدثتم فيها يبين ذلك أن تقصير هذين الركنين هو مما أحدث فيها.
فهذه الأذكار والدعوات ونحوها - والله أعلم - من التي كان يقولها في حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس: أنه كان يمكث بعد الركوع حتى يقولوا: قد أوهم لأنه ليس محل سكوت، فجاء الذكر مفسرا في هذه الأحاديث.
الثاني: أن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ما زال يصليها. ولم يذكر أحد أنه نقص في آخر أمره من الصلاة، وقد أخبرت أم الفضل عن قراءته في المغرب بـ: "المرسلات" في آخر الأمر، وأجمع الفقهاء أن السنة في صلاة الفجر أن يقرأ بطوال المفصل.
وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا ويسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، وطويلا بالنسبة إلى ما هو أخف منه، فلا يمكن تحديد التخفيف المأمور به في الصلاة باللغة ولا بالعرف؛ لأنه ليس له عادة في العرف، كالقبض والحزر والإحياء والاصطياد، حتى يرجع فيه إليه، بل هو من العبادات التي يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع، كما يرجع إليه في أصلها، ولو جاز الرجوع فيه إلى العرف لاختلفت الصلاة الشرعية اختلافا متباينا لا ينضبط، ولكان لكل أهل عصر ومصر -بل لأهل الدرب والسكة، وكل محل لكل طائفة- غرض وعرف وإرادة في مقدار الصلاة، يخالف عرف غيرهم، وهذا يفضي إلى تغيير الشريعة، وجعل السنة تابعة لأهواء [ ص: 234 ] الناس، فلا يرجع في التخفيف المأمور به إلا إلى فعله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يصلي وراءه الضعيف والكبير وذو الحاجة، وقد أمرنا بالتخفيف لأجلهم، فالذي كان يفعله هو التخفيف، إذ من المحال أن يأمر بأمر ويعلله بعلة، ثم يفعل خلافه مع وجود تلك العلة، إلا أن يكون منسوخا.
فالجواب: أنه لا تعارض بحمد الله بين هذه الأحاديث، بل هي أحاديث [ ص: 239 ] يصدق بعضها بعضا، وأن ما وصفه nindex.php?page=showalam&ids=9أنس من تخفيف النبي صلى الله عليه وسلم صلاته هو مقرون بوصفه إياها بالتمام كما تقدم، وهو الذي وصف تطويله ركني الاعتدال حتى كانوا يقولون: "قد أوهم"، ووصف صلاة nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز بأنها تشبه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم قدروها بعشر تسبيحات.
[ ص: 240 ] فهذه الأحاديث كلها تدل على معنى واحد، وهو أنه كان يطيل الركوع والسجود ويخفف القيام.
وهذا بخلاف ما كان يفعله بعض الأمراء الذين أنكر الصحابة صلاتهم من إطالة القيام على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالبا، وتخفيف الركوع والسجود والاعتدالين.
ولهذا أنكر ثابت عليهم تخفيف الاعتدالين، وقال nindex.php?page=hadith&LINKID=657734كان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه . وحديث ابن أبي العمياء إنما فيه أن صلاة nindex.php?page=showalam&ids=9أنس كانت خفيفة. وأنس فقد وصف خفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها أشبه شيء بصلاة nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز مع تطويل الركوع والسجود والاعتدالين، وأحاديثه لا تتناقض، والتخفيف أمر نسبي إضافي، فعشر تسبيحات وعشرون آية أخف من مائة تسبيحة ومائتي آية، فأي معارضة في هذا لما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة؟!.
[ ص: 241 ] والقصر قصران: قصر الأركان، وقصر العدد; فإن اجتمع السفر والخوف، اجتمع القصران، وإن انفرد السفر وحده شرع قصر العدد، وإن انفرد الخوف وحده، شرع قصر الأركان.
وبهذا يعلم سر تقييد القصر المطلق في القرآن بالخوف والسفر، فإن القصر المطلق الذي يتناول القصرين إنما يشرع عند الخوف والسفر، فإن انفرد أحدهما بقي مطلق القصر، إما في العدد وإما في القدر.
ولو قدر أنه صلى الله عليه وسلم خفف الصلاة لا لعذر، كان في ذلك بيان الجواز، وأن الاقتصار على ذلك للعذر ونحوه يكفي في أداء الواجب. فأما أن يكون هو السنة وغيره مكروه، مع أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أغلب أوقاته فحاشى وكلا، ولهذا رواته عنه أكثر من رواة التخفيف، والذين رووا التخفيف رووه أيضا، فلا تضرب سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعص، بل يستعمل كل منها في موضعه.
وتخفيفه إما لبيان الجواز، وتطويله لبيان الأفضل، وقد يكون تخفيفه لبيان الأفضل إذا عرض ما يقتضي التخفيف، فيكون التخفيف في موضعه أفضل، والتطويل في موضعه أفضل، ففي الحالتين ما خرج عن الأفضل، وهذا اللائق بحاله صلى الله عليه وسلم، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته، وهو اللائق بمن اقتدى به، وائتم به صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث معاذ فهو الذي فتن النقارين وسراق الصلاة، لعدم علمهم بالقصة وسياقها; فإن معاذا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة، ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء، فقرأ بهم سورة البقرة.
ومعلوم أن الناس لم يكونوا ينفرون من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ممن يصلي بقدر صلاته، وإنما ينفرون ممن يزيد في الطول على صلاته، فهذا الذي ينفر.
وأما إن قدر نفور كثير ممن لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وكثير من الباطولية الذين يعتادون النقر، كصلاة المنافقين، وليس لهم في الصلاة ذوق ولا لهم فيها راحة، بل يصليها أحدهم استراحة منها لا بها، فهؤلاء لا عبرة بنفورهم، فإن أحدهم يقف بين يدي المخلوق معظم اليوم، ويسعى في خدمته أعظم السعي، فلا يشكو طول ذلك ولا يتبرم به، فإذا وقف بين يدي ربه في خدمته جزءا يسيرا من الزمان، وهو أقل القليل بالنسبة [ ص: 243 ] إلى وقوفه في خدمة المخلوق، استثقل ذلك الوقوف، واستطال وشكا منه، وكأنه واقف على الجمر يتلوى ويتقلى، ومن كانت هذه كراهته لخدمة ربه والوقوف بين يديه، فالله تعالى أكره لهذه الخدمة منه، والله المستعان.