إذا تبين ذلك فنقول:
المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطربون كل منهم يستعمله فيما يثبته، وينكره فيما ينفيه، وإن ذلك فيما ينفيه أولى منه فيما يثبته ويرد على منازعه ما استعمله من ذلك، وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم، بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي، كما تجدهم أيضا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله، ويرد منها ما خالف قوله، وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم والحديث، والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث، فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم
[ ص: 346 ] في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب ما لا يحصيه إلا رب الأرباب.
وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر، فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترئون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون، وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس؛ فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل، وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل، في الأحكام
[ ص: 347 ] والدلائل، كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع.