والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه؛ فإن الله سبحانه ليس مثلا لغيره، ولا مساويا له أصلا؛ بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله، وجعل الند لله، وجعل غيره له كفوا وسميا. وهم مع هذا كثيرو البراءة من التشبيه والذم له، وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله، وجعل غيره له كفوا وندا وسميا،
[ ص: 348 ] كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، ولهذا ذكر
الوزير أبو المظفر بن هبيرة في كتاب "الإيضاح في شرح الصحاح" أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات
[ ص: 349 ] وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه، وتحرجوا من أن يقولوا: مشتركة؛ لأن الله تعالى لا شريك له؛ بل لله المثل الأعلى، وذلك هو قياس الأولى والأحرى، فكل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه؛ لأنه أكمل منه، ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال، فالمعطي الكمال لغيره أولى بأن يكون هو موصوفا به؛ إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله لغيره؛ فإن ذلك لا يمكن؛ بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة. وكذلك ما كان منتفيا عن المخلوق لكونه نقصا وعيبا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك. وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع.
[ ص: 350 ]
وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها، لأن وجوده أكمل، ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها، وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحق بالتنزيه منها لأنه عن العدم أبعد من سائر الموجودات. ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته، وذاته بذاته تنافي العدم، وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم. فهذا أصل ينبغي معرفته. فإذا أثبتت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريقة القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى كان ذلك اعتبارا صحيحا، وكذلك إذا نفي عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطرق؛ ولهذا كان الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها
الجهمية . فاستعملوا مثل هذا فيما أثبتوه لله تعالى وفيما نفوه عنه وفيما ردوه من قول
الجهمية .
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائما بنفسه
[ ص: 351 ] أو موصوفا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به ألا يكون بحيث يكون غيره. وأن لا يكون معدوما؛ بل ما أوجب أن يكون قائما بنفسه مباينا لغيره وأمثال ذلك من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد جار على هذا الصراط المستقيم. فكلما كان أقرب إلى الموجود كان إليه أقرب، وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد.