فصل
وإيضاح هذا الكلام أن يقال:
الإنسان له فعل باختياره وإرادته، وهذا ضروري له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"
nindex.php?page=hadith&LINKID=3503976أصدق الأسماء الحارث وهمام " ، بل وكل حي فهو كذلك.
والفعل الاختياري له مبدأ، وهو الإحساس والشعور المحرك للمحبة والإرادة والقدرة عليه، وله منتهى، وهو المقصود المراد المحبوب بذلك الفعل.
وقد بينا- فيما تقدم- أن مبادئ الفعل لا يجوز أن تكون من العبد، لأن فعله لها حادث من الحوادث، فلا يجوز أن يحدث بنفسه، ولا يجوز أن يحدث فعله بمبادئ فعله، لأنه يلزم أن تكون تلك
[ ص: 148 ] المبادئ علة فعله ومعلولة فعله، وذلك ممتنع إن كانت هي إياها، وإن كانت غيرها لزم أن يكون فاعلا لفعله بفعل. وكذلك الفعل بفعل آخر، وكذلك الفعل بفعل آخر، فتحدث تلك الإرادة بإرادة، وتلك الإرادة بإرادة، وهلم جرا. وهذا يفضي إلى وجود حوادث لا تتناهى في الإنسان، والإنسان متناهي، ويمتنع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى، فلا بد أن تنتهي تلك الأفعال إلى أسباب خارجة من العبد، وهذا خارج من قولنا، لأنه يفضي إلى التسلسل، فإن التسلسل إن أريد به تسلسل العلل التامة التي يجب وجودها في زمن واحد، لم يجب ذلك. وإن توقف الفعل الثاني على الأول جاز أن يكون من باب الشروط التي يجوز تقدمها، فتكون كوجود حوادث لا تتناهى. وهذا فيه نزاع، فمن جوزه في القديم أو المحدث لم يصح أن يبطل التسلسل فيه. ومن لم يجوزه يرد عليه سؤالات مذكورة في غير هذا الموضع.
وإن شئت أن تقول: لأن الفعل القريب إما أن يكون مفعولا عن الفعل الذي قبله بحيث يكون كل فعل علة لما بعده أو شرطا، فإن كان علة لزم وجود إرادات وأفعال لا تتناهى في زمان واحد، والإنسان يعلم بحسه وعقله أن الأمر بخلاف ذلك علما ضروريا. وإن كان شرطا لزم ما لا يتناهى على التعاقب، وهو إما أن يكون ممتنعا فيما يتناهى، وإن شئت أن تقول: التسلسل في الإنسان ممتنع، لأنه مستلزم وجود ما لا يتناهى في زمن واحد، أو في أزمنة لا تتناهى في حق الإنسان، وذلك ممتنع في الوجهين.
وهذا السؤال يرد على
أبي عبد الله الرازي، فإنه يقرر خلق فعل
[ ص: 149 ] العبد بشبيه هذا، لكن لا يبين امتناع التسلسل اكتفاء منه بما قرر في حدوث العالم، وذلك متنازع فيه بين المسلمين وغيرهم، أو لظهور ذلك في حق العبد، وهو يقرره بالإمكان، وتقريره بالحدوث أظهر.
وقد ذكرنا غير مرة أن
ما دل على حدوث الحوادث المشهودة وأنها خلق لله، يدل على ذلك في أفعال العبد، لا فرق بين أفعاله وسائر صفاته.
والمقصود هنا الطرف الثاني، وهو أن ذلك الفعل لا بد له من منتهى هو المحبوب المقصود المطلوب به. فنقول: كما أن العبد يوجد فعله تارة ويعدم أخرى، ففعله الموجود بإرادته قد يريد به ما يصلحه وينفعه تارة، وقد يريد به ما يفسده ويضره أخرى، وذلك لأنه إما أن يصلح له أن يفعل كل ما يهواه ويحبه ويريده من الأفعال، فيقصد ويعبد ويطلب كل ما يهواه، أو لا يصلح ذلك إلا في بعض الأمور دون بعض.
والأول باطل، لأنه إذا فعل كل شيء يهواه ويحبه لزم وقوع الفساد المستلزم لنقيض ما يحبه ويهواه، بل لو وقع في الوجود كل ما يهواه كل إنسان لزم فساد العالم، كما قال تعالى:
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ، وذلك أن أهواء النفوس ليس لها حد تقف عنده إذا أعطيت القدرة، بل هذا يهوى أن يغلب هذا فيقتله أو يأخذ ماله أو رئاسته، وهذا كذلك، وهذا يهوى أن ينال ما
[ ص: 150 ] اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يعظم ويعبد من دون الله حتى لا يفعل أحد مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. وأمثال هذا مما يطول عده. وما من عاقل إلا ويعرف ذلك.
ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعا إلا بشرع يستلزمونه ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم بدون " ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاون وتتناصر فإنها تتهاون تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يعن هذا هذا، ولا هذا هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم، بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يمكن هذا هذا من فعل ما يصلحه، ولم يمكن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء تارة، لزم فساد كل فريق إذا غلبوا، بل وإذا غلبوا أيضا، إذا لم يكن لهم شرع يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك.
وبهذا وأمثاله يتبين أن
الدين والشرع ضروري لبني آدم، لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرع غايته نوع من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرع فيه صلاح
[ ص: 151 ] الدنيا والآخرة، ولا يتصور شرع فيه صلاح الآخرة دون الدنيا، فإن الآخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول لفضولها.
وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان فعله ما يهواه يستلزم وقوع ما يضره وخلاف ما يهواه، كان وجود هذا مستلزما لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودا، لما فيه من الضرر والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودا ينافي كونه مقصودا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصل المحبوب، فإذا كان حصول هذا المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوع المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة مستلزما نقيض هذه الغاية وضدها، وما استلزم وجوده عدمه ووجود ضده امتنع أن يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك.
كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل، فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له.