الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه إذا جعل لها فاعلا، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحا. [ ص: 152 ]

وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية.

وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين:

أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده.

والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه.

فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلا، وهي أعمال الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدا.

ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم يترتب عليه أثره شرعا . ولهم في الفرق بين الباطل والفاسد كلام ليس هذا موضعه.

فوجود الأفعال التي لا تحصل غاياتها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابق معتقداتها، فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقاد من اعتقد أنه خالق فعله بالنسبة إلى الفاعل، ووجود هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عمله لهذه الغاية الفاسدة المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية [ ص: 153 ] الصحيحة غير هذه، وإن ضل هو في قصد هذه والعمل لها.

وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، علم بهذا أنه لا يصلح أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه وتقصده.

كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثا عن مجرد النفس، فكما أن مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من غاية تكون معبوده، كما أنه لا بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال: إياك نعبد وإياك نستعين فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاه مطلقا، لكن يفعل لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده.

وكما أن الإنسان ليس محدثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المبدع له ولمبادئه المستقل به، ولكن هو المحدث لفعله بمعنى أنه فعله بقدرته ومشيئته واعتقاده، وذلك أنه كله مخلوق لله، فربه هو الرب الخالق لفعله وإن كان هو فاعله، وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه.

وكون الرب خالقا وربا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلا كاسبا [ ص: 154 ] له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة والصلاح والخير واللذة.

فتدبر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحق المحب المريد لما يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلا حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه.

التالي السابق


الخدمات العلمية