[ ص: 148 ] القول في تأويل
قوله تعالى ذكره ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله : (
من آمن بالله واليوم الآخر ) ، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة ، وعمل صالحا فأطاع الله ، فلهم أجرهم عند ربهم . يعني بقوله : (
فلهم أجرهم عند ربهم ) ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم .
فإن قال لنا قائل : فأين تمام قوله : (
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ) ؟
قيل : تمامه جملة قوله : (
من آمن بالله واليوم الآخر ) . لأن معناه : من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فترك ذكر " منهم " لدلالة الكلام عليه ، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره .
فإن قال : وما معنى هذا الكلام ؟
قيل : إن معناه : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ، من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلهم أجرهم عند ربهم .
فإن قال : وكيف يؤمن المؤمن ؟
قيل : ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته ، من انتقال من دين إلى دين ، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك ، من كان من أهل الكتاب على إيمانه
بعيسى وبما جاء به ، حتى أدرك
محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه ، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين
بعيسى وبما جاء به ، إذ أدركوا
محمدا صلى الله عليه وسلم : آمنوا
بمحمد وبما جاء به ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ، ثباته على إيمانه وتركه تبديله . وأما إيمان
اليهود والنصارى والصابئين ، فالتصديق
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما
[ ص: 149 ] جاء به ، فمن يؤمن منهم
بمحمد ، وبما جاء به واليوم الآخر ، ويعمل صالحا ، فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك ، فله ثواب عمله وأجره عند ربه ، كما وصف جل ثناؤه .
فإن قال قائل : وكيف قال : " فلهم أجرهم عند ربهم " ، وإنما لفظه " من " لفظ واحد ، والفعل معه موحد ؟
قيل : " من " ، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا ، فإن معنى الواحد والاثنين والجمع ، والتذكير والتأنيث ، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير . فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه ، كما قال جل ثناؤه : (
ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ) [ يونس : 42 - 43 ] . فجمع مرة مع " من " الفعل لمعناه ، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد ، كما قال الشاعر :
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما ، وقولا لها : عوجي على من تخلفوا
[ ص: 150 ] فقال : " تخلفوا " ، وجعل " من " بمنزلة " الذين " ، وقال الفرزدق :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فثنى " يصطحبان " لمعنى " من " . فكذلك قوله : (
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) ، وحد " آمن وعمل صالحا " للفظ " من " ، وجمع ذكرهم في قوله : (
فلهم أجرهم ) ، لمعناه ، لأنه في معنى جمع .