القول في تأويل قوله تعالى : ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ( 18 )
أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ( 19 ) )
يقول - تعالى ذكره - : قد يعلم الله الذين يعوقون الناس منكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصدونهم عنه ، وعن شهود الحرب معه ، نفاقا منهم ، وتخذيلا عن الإسلام وأهله (
والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) : أي تعالوا إلينا ، ودعوا
محمدا ، فلا تشهدوا معه مشهده ، فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه (
ولا يأتون البأس إلا قليلا ) يقول : ولا يشهدون الحرب والقتال إن شهدوا إلا تعذيرا ، ودفعا عن أنفسهم المؤمنين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم ) قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم : ما
محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم
أبو سفيان وأصحابه ، دعوا هذا الرجل فإنه هالك .
وقوله : (
ولا يأتون البأس إلا قليلا ) أي : لا يشهدون القتال ، يغيبون عنه .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : ثنا
يزيد بن رومان (
قد يعلم الله المعوقين منكم ) : أي أهل النفاق (
والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ) : أي إلا دفعا وتعذيرا .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال :
قال ابن زيد في قوله : ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم ) [ ص: 231 ] إلى آخر الآية ، قال : هذا يوم الأحزاب ، انصرف رجل من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف ونبيذ ، فقال له : أنت هاهنا في الشواء والرغيف والنبيذ ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إلى هذا ، فقد بلغ بك وبصاحبك ، والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا ، فقال : كذبت والذي يحلف به ؛ قال - وكان أخاه من أبيه وأمه - : أما والله لأخبرن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرك ؛ قال : وذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره ؛ قال : فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام بخبره ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ) .
وقوله : (
أشحة عليكم ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به هؤلاء المنافقين في هذا الموضع من الشح ، فقال بعضهم : وصفهم بالشح عليهم في الغنيمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
أشحة عليكم ) في الغنيمة .
وقال آخرون : بل وصفهم بالشح عليهم بالخير .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثني
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
أشحة عليكم ) قال : بالخير المنافقون ، وقال غيره : معناه : أشحة عليكم بالنفقة على ضعفاء المؤمنين منكم .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشح ، ولم يخصص وصفهم من معاني الشح ، بمعنى دون معنى ، فهم كما وصفهم الله به : أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله ، على أهل مسكنة المسلمين . ونصب قوله : (
أشحة عليكم ) على الحال من ذكر الاسم الذي في قوله : (
ولا يأتون البأس ) كأنه قيل : هم جبناء عند البأس ، أشحاء عند قسم الغنيمة بالغنيمة . وقد يحتمل أن يكون قطعا من قوله : (
قد يعلم الله المعوقين منكم ) فيكون تأويله : قد يعلم الله الذين يعوقون الناس على القتال ، ويشحون عند الفتح بالغنيمة ، ويجوز أن يكون أيضا قطعا من قوله : هلم إلينا أشحة ، وهم هكذا أشحة . ووصفهم جل ثناؤه بما وصفهم من الشح على المؤمنين لما في
[ ص: 232 ] أنفسهم لهم من العداوة والضغن .
كما حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : ثني
يزيد بن رومان (
أشحة عليكم ) أي للضغن الذي في أنفسهم .
وقوله : (
فإذا جاء الخوف ) إلى قوله : ( من الموت ) يقول - تعالى ذكره - : فإذا حضر البأس ، وجاء القتال خافوا الهلاك والقتل ، رأيتهم يا
محمد ينظرون إليك لواذا بك ، تدور أعينهم خوفا من القتل ، وفرارا منه (
كالذي يغشى عليه من الموت ) يقول : كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به (
فإذا ذهب الخوف ) يقول : فإذا انقطعت الحرب واطمأنوا (
سلقوكم بألسنة حداد ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ) من الخوف .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : ثني
يزيد بن رومان (
فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) أي إعظاما وفرقا منه وأما قوله : (
سلقوكم بألسنة حداد ) فإنه يقول : عضوكم بألسنة ذربة . ويقال للرجل الخطيب الذرب اللسان : خطيب مسلق ومصلق ، وخطيب سلاق وصلاق .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف - تعالى ذكره - هؤلاء المنافقين أنهم يسلقون المؤمنين به ، فقال بعضهم : ذلك سلقهم إياهم عند الغنيمة بمسألتهم القسم لهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) أما عند الغنيمة ، فأشح قوم وأسوأ مقاسمة ، أعطونا أعطونا فإنا قد شهدنا معكم . وأما عند البأس فأجبن قوم ، وأخذله للحق .
وقال آخرون : بل ذلك سلقهم إياهم بالأذى .
ذكر ذلك عن
ابن عباس :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس [ ص: 233 ] قوله : (
سلقوكم بألسنة حداد ) قال : استقبلوكم .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد (
سلقوكم بألسنة حداد ) قال : كلموكم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يسلقونهم من القول بما تحبون نفاقا منهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : ثني
يزيد بن رومان (
فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) في القول بما تحبون لأنهم لا يرجون آخرة ، ولا تحملهم حسبة ، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده .
وأشبه هذه الأقوال بما دل عليه ظاهر التنزيل قول من قال : (
سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير ) فأخبر أن سلقهم المسلمين شحا منهم على الغنيمة والخير ، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك ، أن ذلك لطلب الغنيمة . وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنيمة دخل في ذلك قول من قال : معنى ذلك : سلقوكم بالأذى ، لأن فعلهم ذلك كذلك لا شك أنه للمؤمنين أذى .
وقوله : (
أشحة على الخير ) يقول : أشحة على الغنيمة إذا ظفر المؤمنون .
وقوله : (
لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ) يقول - تعالى ذكره - : هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم في هذه الآيات لم يصدقوا الله ورسوله . ولكنهم أهل كفر ونفاق ، (
فأحبط الله أعمالهم ) يقول : فأذهب الله أجور أعمالهم وأبطلها . وذكر أن الذي وصف بهذه الصفة كان بدريا ، فأحبط الله عمله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ) قال : فحدثني أبي أنه كان بدريا ، وأن قوله : (
فأحبط الله أعمالهم ) أحبط الله عمله يوم
بدر .
وقوله : (
وكان ذلك على الله يسيرا ) يقول - تعالى ذكره - : وكان إحباط عملهم الذي كانوا عملوا قبل ارتدادهم ونفاقهم على الله يسيرا .