القول في
تأويل قوله تعالى : ( جزاء من ربك عطاء حسابا ( 36 )
رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا ( 37 )
[ ص: 174 ] يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ( 38 ) ) .
يعني بقوله جل ثناؤه : (
جزاء من ربك عطاء ) أعطى الله هؤلاء المتقين ما وصف في هذه الآيات ثوابا من ربك بأعمالهم ، على طاعتهم إياه في الدنيا .
وقوله : ( عطاء ) يقول : تفضلا من الله عليهم بذلك الجزاء ، وذلك أنه جزاهم بالواحد عشرا في بعض وفي بعض بالواحد سبع مئة ، فهذه الزيادة وإن كانت جزاء ، فعطاء من الله .
وقوله : ( حسابا ) يقول : محاسبة لهم بأعمالهم لله في الدنيا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
جزاء من ربك عطاء حسابا ) قال : عطاء منه حسابا لما عملوا .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
جزاء من ربك عطاء حسابا ) : أي عطاء كثيرا ، فجزاهم بالعمل اليسير الخير الجسيم ، الذي لا انقطاع له .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
عطاء حسابا ) قال : عطاء كثيرا ، وقال
مجاهد : عطاء من الله حسابا بأعمالهم .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : سمعت
ابن زيد يقول في قول الله : (
جزاء من ربك عطاء حسابا ) فقرأ : (
إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا ) إلى (
عطاء حسابا ) قال : فهذه جزاء بأعمالهم عطاء الذي أعطاهم عملوا له واحدة ، فجزاهم عشرا ، وقرأ قول الله : (
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، وقرأ قول الله : (
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ) قال : يزيد من يشاء ، كان هذا كله عطاء ، ولم يكن أعمالا يحسبه لهم ، فجزاهم به حتى كأنهم عملوا له ، قال : ولم يعملوا إنما عملوا عشرا ، فأعطاهم مئة ، وعملوا مئة ، فأعطاهم ألفا ، هذا كله عطاء ، والعمل الأول ، ثم حسب ذلك حتى كأنهم عملوا فجزاهم كما جزاهم بالذي عملوا .
[ ص: 175 ]
وقوله : (
رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) يقول جل ثناؤه : جزاء من ربك رب السماوات السبع والأرض وما بينهما من الخلق .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء
المدينة : (
رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) بالرفع في كليهما . وقرأ ذلك بعض أهل
البصرة وبعض الكوفيين : ( رب ) خفضا : ( الرحمن ) رفعا ولكل ذلك عندنا وجه صحيح ، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الخفض في الرب ، لقربه من قوله : (
جزاء من ربك ) : أعجب إلي ، وأما ( الرحمن ) بالرفع فإنه أحسن لبعده من ذلك .
وقوله : (
الرحمن لا يملكون منه خطابا ) يقول تعالى ذكره : الرحمن لا يقدر أحد من خلقه خطابه يوم القيامة ، إلا من أذن له منهم وقال صوابا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
لا يملكون منه خطابا ) قال : كلاما .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
لا يملكون منه خطابا ) أي كلاما .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
لا يملكون منه خطابا ) قال : لا يملكون أن يخاطبوا الله ، والمخاطب : المخاصم الذي يخاصم صاحبه .
وقوله : (
يوم يقوم الروح ) اختلف أهل العلم في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو ملك من أعظم الملائكة خلقا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا
رواد بن الجراح ، عن
أبي حمزة ، عن
الشعبي ، عن
علقمة ، عن
ابن مسعود ، قال : الروح : ملك في السماء الرابعة ، هو أعظم من السماوات ومن الجبال ومن الملائكة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة ، يجيء يوم القيامة صفا وحده .
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، [ ص: 176 ] قوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة ) قال : هو ملك أعظم الملائكة خلقا .
وقال آخرون : هو
جبريل عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
أبي سنان ، عن
ثابت ، عن
الضحاك (
يوم يقوم الروح ) قال :
جبريل عليه السلام .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
الضحاك (
يوم يقوم الروح ) قال : الروح :
جبريل عليه السلام .
حدثنا
محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا
رواد بن الجراح ، عن
أبي حمزة عن
الشعبي (
يوم يقوم الروح ) قال : الروح
جبريل عليه السلام .
وقال آخرون : خلق من خلق الله في صورة بني
آدم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
أبو عامر ، قال : ثنا
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : ( الروح ) خلق على صورة بني
آدم يأكلون ويشربون .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
مسلم ، عن
مجاهد ، قال : ( الروح ) : خلق لهم أيد وأرجل ، وأراه قال : ورءوس يأكلون الطعام ، ليسوا ملائكة .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
أبو عامر ، قال : ثنا
سفيان ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
أبي صالح ، قال : يشبهون الناس وليسوا بالناس .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثنا
ابن أبي عدي ، عن
شعبة ، عن
سليمان ، عن
مجاهد ، قال : ( الروح ) خلق كخلق
آدم .
حدثني
يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن
الأعمش ، في قوله : (
يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) قال : الروح خلق من خلق الله يضعفون على الملائكة أضعافا ، لهم أيد وأرجل .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
معتمر بن سليمان ، عن
إسماعيل ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12047أبي صالح مولى أم هانئ (
يوم يقوم الروح والملائكة ) قال : الروح : خلق كالناس ، وليسوا بالناس .
وقال آخرون : هم بنو
آدم .
[ ص: 177 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
يوم يقوم الروح ) قال : هم بنو
آدم ، وهو قول
الحسن .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
الحسن ، في قوله : (
يوم يقوم الروح ) قال : الروح بنو
آدم . وقال
قتادة : هذا مما كان يكتمه
ابن عباس .
وقال آخرون : قيل : ذلك أرواح بني
آدم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون ) قال : يعني حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح إلى الأجساد .
وقال آخرون : هو القرآن .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، كان أبي يقول : الروح : القرآن ، وقرأ (
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) .
والصواب من القول أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطابا ، يوم يقوم الروح ، والروح خلق من خلقه ، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت ، والله أعلم أي ذلك هو ، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له ، ولاحجة تدل عليه ، وغير ضائر الجهل به .
وقيل : إنه يقول : سماطان .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، قال : أخبرنا
منصور بن عبد الرحمن ، عن
الشعبي ، في قوله : (
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) قال : هما سماطان لرب العالمين يوم القيامة; سماط من الروح ، وسماط من الملائكة .
[ ص: 178 ]
وقوله : (
لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) قيل : إنهم يؤذن لهم في الكلام حين يؤمر بأهل النار إلى النار ، وبأهل الجنة إلى الجنة .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : ثنا
أبو عمرو - الذي يقص في طيئ - عن
عكرمة ، وقرأ هذه الآية : (
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) قال : يمر بأناس من أهل النار على ملائكة ، فيقولون : أين تذهبون بهؤلاء ؟ فيقال : إلى النار ، فيقولون : بما كسبت أيديهم ، وما ظلمهم الله ، ويمر بأناس من أهل الجنة على ملائكة ، فيقال : أين تذهبون بهؤلاء ؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : برحمة الله دخلتم الجنة ، قال : فيؤذن لهم في الكلام ، أو نحو ذلك .
وقال آخرون : (
إلا من أذن له الرحمن ) بالتوحيد (
وقال صوابا ) في الدنيا ، فوحد الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) يقول : إلا من أذن له الرب بشهادة أن لا إله إلا الله ، وهي منتهى الصواب .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
وقال صوابا ) قال : حقا في الدنيا وعمل به .
حدثنا
عمرو بن علي ، قال : ثنا
أبو معاوية ، قال : ثنا
إسماعيل ، عن
أبي صالح في قوله : (
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) قال : لا إله إلا الله .
قال
أبو حفص : فحدثت به
يحيى بن سعيد ، فقال : أنا كتبته عن
عبد الرحمن بن مهدي ، عن
أبي معاوية .
حدثني
سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا
حفص بن عمر العدني ، قال : ثنا
الحكم بن أبان ، عن
عكرمة في قوله : (
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) قال : لا إله إلا الله .
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه أنهم لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكة صفا ، إلا من أذن له منهم في الكلام الرحمن ،
[ ص: 179 ] وقال صوابا ، فالواجب أن يقال كما أخبر إذ لم يخبرنا في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، أنه عنى بذلك نوعا من أنواع الصواب ، والظاهر محتمل جميعه .