[ ص: 364 ] [ ص: 365 ] [ ص: 366 ] [ ص: 367 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : (
سبح اسم ربك الأعلى ( 1 )
الذي خلق فسوى ( 2 )
والذي قدر فهدى ( 3 )
والذي أخرج المرعى ( 4 )
فجعله غثاء أحوى ( 5 )
سنقرئك فلا تنسى ( 6 )
إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( 7 ) ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
سبح اسم ربك الأعلى ) فقال بعضهم : معناه : عظم ربك الأعلى ، لا رب أعلى منه وأعظم ، وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال : سبحان ربي الأعلى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا
أبو بشر ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عمر أنه كان يقرأ : (
سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى (
الذي خلق فسوى ) قال : وهي في قراءة
أبي بن كعب كذلك .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال :
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
عبد خير ، قال : سمعت
عليا رضي الله عنه قرأ : (
سبح اسم ربك الأعلى ) فقال : سبحان ربي الأعلى .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
حكام ، عن
عنبسة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق الهمداني ، أن
ابن عباس ، كان إذا قرأ (
سبح اسم ربك الأعلى ) يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ (
لا أقسم بيوم القيامة ) فأتى على آخرها (
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ يقول : سبحانك اللهم وبلى .
[ ص: 368 ]
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة nindex.php?page=hadith&LINKID=811853 ( سبح اسم ربك الأعلى ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
خارجة ، عن
داود ، عن
زياد بن عبد الله ، قال : سمعت
ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب : (
سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : نزه يا
محمد اسم ربك الأعلى ، أن تسمي به شيئا سواه ، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون من تسميتهم آلهتهم بعضها اللات وبعضها العزى .
وقال غيرهم : بل معنى ذلك : نزه الله عما يقول فيه المشركون كما قال : (
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) وقالوا : معنى ذلك : سبح ربك الأعلى; قالوا : وليس الاسم معنيا .
وقال آخرون : نزه تسميتك يا
محمد ربك الأعلى وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت له خاشع متذلل; قالوا : وإنما عني بالاسم : التسمية ، ولكن وضع الاسم مكان المصدر .
وقال آخرون : معنى قوله : (
سبح اسم ربك الأعلى ) : صل بذكر ربك يا
محمد ، يعني بذلك : صل وأنت له ذاكر ، ومنه وجل خائف .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معناه : نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان ، لما ذكرت من الأخبار ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=812678عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى ، فبين بذلك أن معناه كان عندهم معلوما : عظم اسم ربك ونزهه .
وقوله : (
الذي خلق فسوى ) يقول : الذي خلق الأشياء فسوى خلقها ، وعدلها ، والتسوية التعديل .
وقوله : (
والذي قدر فهدى ) يقول تعالى ذكره : والذي قدر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عني بقوله : ( فهدى ) ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والبهائم للمراتع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، [ ص: 369 ] قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( قدر فهدى ) قال : هدى الإنسان للشقوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عم بقوله : ( فهدى ) الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشر ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دال على خصوصه . واجتمعت قراء الأمصار على تشديد الدال من قدر ، غير
الكسائي فإنه خففها .
والصواب في ذلك التشديد ؛ لإجماع الحجة عليه .
وقوله : (
والذي أخرج المرعى ) يقول : والذي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات وأنواع الحشيش .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب بن مكرم ، قال ثنا
الحفري ، قال ثنا
سفيان ، عن
منصور ، عن
أبي رزين (
أخرج المرعى ) قال : النبات .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
والذي أخرج المرعى ) الآية ، نبت كما رأيتم بين أصفر وأحمر وأبيض .
وقوله : (
فجعله غثاء أحوى ) يقول تعالى ذكره : فجعل ذلك المرعى غثاء ، وهو ما جف من النبات ويبس ، فطارت به الريح; وإنما عني به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحوة ، وهي السواد من بعد البياض أو الخضرة من شدة اليبس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
غثاء أحوى ) يقول : هشيما متغيرا
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، [ ص: 370 ] قوله : (
غثاء أحوى ) قال : غثاء السيل أحوى ، قال : أسود .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، في قوله : (
غثاء أحوى ) قال : يعود يبسا بعد خضرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
فجعله غثاء أحوى ) قال : كان بقلا ونباتا أخضر ، ثم هاج فيبس ، فصار غثاء أحوى تذهب به الرياح والسيول . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ؛ أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك ، ويعتل لقوله ذلك بقول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة : حواء قرحاء أشراطية وكفت فيها الذهاب وحفتها البراعيم
وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه ، أو تأخيره ، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير .
وقوله : (
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) يقول تعالى ذكره : سنقرئك
[ ص: 371 ] يا
محمد هذا القرآن فلا تنساه ، إلا ما شاء الله .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : (
فلا تنسى إلا ما شاء الله ) فقال بعضهم : هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه ، ونهى منه أن يعجل بقراءته كما قال جل ثناؤه : (
لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن; قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
سنقرئك فلا تنسى ) قال : كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى ، فقال قائلو هذه المقالة : معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ، ومعنى الكلام : فلا تنسى ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، ولا تذكره ، قالوا : ذلك هو ما نسخه الله من القرآن ، فرفع حكمه وتلاوته .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
سنقرئك فلا تنسى ) كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا (
إلا ما شاء الله ) .
وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك; وقالوا : معنى الكلام : سنقرئك يا
محمد فلا تترك العمل بشيء منه ، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به ، مما ننسخه .
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : لم يشأ الله أن تنسى شيئا ، وهو كقوله : (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئا . قال : وعلى هذا مجاري الأيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف : اللمام .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : فلا تنسى إلا أن نشاء نحن أن ننسيكه بنسخه ورفعه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ؛ لأن ذلك أظهر معانيه .
وقوله : (
إنه يعلم الجهر وما يخفى ) يقول تعالى ذكره : إن الله يعلم الجهر
[ ص: 372 ] يا
محمد من عملك ما أظهرته وأعلنته ( وما يخفى ) يقول : وما يخفى منه فلم تظهره مما كتمته ، يقول : هو يعلم جميع أعمالك سرها وعلانيتها ; يقول : فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به .