القول في تأويل قوله تعالى ( فإذا أفضتم من عرفات )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإذا أفضتم" ، فإذا رجعتم من حيث بدأتم .
ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار : "مفيض" ، لجمعه القداح ثم إفاضته إياها بين الياسرين . ومنه قول
بشر بن أبي خازم الأسدي :
فقلت لها ردي إليه جنانه فردت كما رد المنيح مفيض
ثم اختلف أهل العربية في"
عرفات " ، والعلة التي من أجلها صرفت وهي
[ ص: 171 ] معرفة ، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع؟
فقال بعض نحويي البصريين : هي اسم كان لجماعة مثل"مسلمات ، ومؤمنات" ، سميت به بقعة واحدة ، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة ، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة ، تركا منهم له على أصله ؛ لأن"التاء" فيه صارت بمنزلة"الياء والواو" في"مسلمين ومسلمون" ، لأنه تذكيره ، وصار التنوين بمنزلة"النون" . فلما سمي به ترك على حاله ، كما يترك" المسلمون" إذا سمي به على حاله . قال : ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به ، ويشبه"التاء" بهاء التأنيث ، وذلك قبيح ضعيف ، واستشهدوا بقول الشاعر :
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي
ومنهم من لا ينون"أدرعات" وكذلك : "عانات" ، وهو مكان .
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما انصرفت"
عرفات " ، لأنهن على جماع مؤنث"بالتاء" . قال : وكذلك ما كان من جماع مؤنث"بالتاء" ، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة ، انصرفت . قال : ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا ، ثم تجعله بعد ذلك واحدا .
[ ص: 172 ]
وقال آخرون منهم : ليست"
عرفات " حكاية ، ولا هي اسم منقول ، ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه"
بعرفات " ، ثم سميت بها البقعة . اسم للموضع ، ولا ينفرد واحدها . قال : وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع ، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء . قال : ولذلك نصبت العرب "التاء" في ذلك ؛ لأنه موضع . ولو كان محكيا ، لم يكن ذلك فيه جائزا ؛ لأن من سمى رجلا"مسلمات" أو"مسلمين" لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل ، فلذلك خالف : "عانات ، وأذرعات" ، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية .
قال
أبو جعفر : واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل
لعرفات "
عرفات " . فقال بعضهم : قيل لها ذلك من أجل أن
إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده ، فقال : قد عرفت ، فسميت
عرفات بذلك . وهذا القول من قائله يدل على أن
عرفات اسم للبقعة ، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وأرض سباسب ، فتجمع بما حولها .
ذكر من قال ذلك :
3792 - حدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، عن
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، قال :
لما أذن إبراهيم في الناس بالحج ، فأجابوه بالتلبية ، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى
عرفات ، ونعتها فخرج ، فلما بلغ الشجرة عند
العقبة ، استقبله الشيطان يرده ، فرماه بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية ، فصده أيضا ، فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر .
[ ص: 173 ] فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر
إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى
ذا المجاز ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي : "ذا المجاز" . ثم انطلق حتى وقع
بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : "قد عرفت!" فسمي : "
عرفات " . فوقف
إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت : "
المزدلفة " ، فوقف بجمع .
3793 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
إسحاق ، قال : حدثنا
عبد الرزاق ، عن
معمر ، عن
سليمان التيمي ، عن
نعيم بن أبي هند ، قال : لما وقف
جبريل بإبراهيم عليهما السلام
بعرفات ، قال : "عرفت!" ، فسميت
عرفات لذلك .
3794 - حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : قال
ابن المسيب : قال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بعث الله
جبريل إلى
إبراهيم فحج به ، فلما أتى
عرفة قال : "قد عرفت!" ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك ، ولذلك سميت"
عرفة " .
وقال آخرون : بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها .
ذكر من قال ذلك :
3795 - حدثنا
أبو كريب ، قال : حدثنا
وكيع بن مسلم القرشي ، عن
أبي طهفة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11871أبي الطفيل ، عن
ابن عباس قال : إنما سميت
عرفات ، لأن
جبريل عليه السلام ، كان يقول
لإبراهيم : هذا موضع كذا ، هذا موضع كذا ، فيقول : " قد عرفت!" ، فلذلك سميت"
عرفات " .
[ ص: 174 ]
3796 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
سويد ، قال : أخبرنا
ابن المبارك ، عن
عبد الملك بن أبي سليمان ، عن
عطاء قال : إنما سميت
عرفة أن
جبريل كان يري
إبراهيم عليهما السلام المناسك ، فيقول : " عرفت ، عرفت!" فسمي"
عرفات " .
3797 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
سويد ، قال : أخبرنا
ابن المبارك ، عن
زكريا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : قال
ابن عباس : أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف ، حتى يأتي الجبل جبل
عرفة .
وقال
ابن أبي نجيح :
عرفات : "النبعة" و"النبيعة" و"ذات النابت" ، وذلك قول الله : " فإذا أفضتم من
عرفات " ، وهو الشعب الأوسط .
وقال
زكريا : ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى
عرفة ، فهو من
عرفة ، وما دبر ذلك الجبل فليس من
عرفة .
وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال : هو اسم لواحد سمي بجماع ، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا . وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة ، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف .
[ ص: 175 ]