القول في تأويل قوله تعالى (
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فإذا قضيتم مناسككم " ، فإذا فرغتم من حجكم فذبحتم نسائككم ، فاذكروا الله
يقال منه : "نسك الرجل ينسك نسكا ونسكا ونسيكة ومنسكا" ، إذا ذبح نسكه ، و"المنسك" اسم مثل "المشرق والمغرب" ، فأما"النسك" في الدين ، فإنه يقال منه : " ما كان الرجل ناسكا ، ولقد نسك ، ونسك نسكا ونسكا ونساكة" ، وذلك إذا تقرأ .
وبمثل الذي قلنا في معنى"المناسك" في هذا الموضع قال
مجاهد :
3845 - حدثني
محمد بن عمرو ، قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "
فإذا قضيتم مناسككم " ، قال : إهراقة الدماء .
[ ص: 196 ]
3846 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
أبو حذيفة ، قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
وأما قوله : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في صفة" ذكر القوم آباءهم" ، الذين أمرهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءهم أو أشد ذكرا .
فقال بعضهم : كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم ، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره ، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره ، نظير ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم .
ذكر من قال ذلك :
3847 - حدثنا
تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا
إسحاق بن يوسف ، عن
القاسم بن عثمان ، عن
أنس في هذه الآية ، قال : كانوا يذكرون آباءهم في الحج ، فيقول بعضهم : كان أبي يطعم الطعام ، ويقول بعضهم : كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم : كان أبي جز نواصي بني فلان! .
3848 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
عبد الرحمن ، قال : حدثنا
سفيان . عن
عبد العزيز ، عن
مجاهد قال : كانوا يقولون : كان آباؤنا ينحرون الجزر ، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية : " اذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " :
3849 - حدثنا
ابن بشار ، قال : حدثنا
عبد الرحمن ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
عاصم ، عن
أبي وائل : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " ، قال : كان أهل الجاهلية يذكرون فعال آبائهم .
3850 - حدثنا
أبو كريب ، قال : سمعت
أبا بكر بن عياش ، قال : كان
[ ص: 197 ] أهل الجاهلية إذا فرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءهم وأيامهم : كان أبي يطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال
أبو كريب : قلت
ليحيى بن آدم : عمن هو؟ قال : حدثنا
أبو بكر بن عياش ، عن
عاصم ، عن
أبي وائل .
3851 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا
هشيم ، قال : أخبرني
حجاج عمن حدثه ، عن
مجاهد في قوله : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم " ، قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة فذكروا آباءهم ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم ، فنزلت هذه الآية .
3852 - حدثني
يعقوب ، قال : حدثنا
هشيم ، عن
عبد الملك ، عن
قيس ، عن
مجاهد في قوله : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم . قال : فنزلت هذه الآية .
3853 - حدثني
محمد بن عمرو ، قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم " ، قال : تفاخرت العرب بينها بفعل آبائها يوم النحر حين فرغوا فأمروا بذكر الله مكان ذلك .
3854 - حدثنا
المثنى ، قال : حدثنا
أبو حذيفة ، قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، نحوه .
3855 - حدثنا
بشر بن معاذ ، قال : حدثنا
يزيد ، قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : "
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال
قتادة : كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم
بمنى قعدوا حلقا فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم به ، يخطب خطيبهم ويحدث محدثهم ، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرا .
[ ص: 198 ]
3856 - حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا ، وذكروا آباءهم وأيامها ، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكر الله ، يذكرونه كذكرهم آباءهم ، أو أشد ذكرا .
3857 - حدثنا
أبو كريب ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وقفوا
بعرفة ، فنزلت هذه الآية .
3858 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثني
حجاج ، قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : أخبرني
عبد الله بن كثير أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا يقول ذلك يوم النحر ، حين ينحرون . قال : قال"
فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال : كانت العرب يوم النحر حين يفرغون يتفاخرون بفعال آبائها ، فأمروا بذكر الله عز وجل مكان ذلك :
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فاذكروا الله كذكر الأبناء والصبيان الآباء .
ذكر من قال ذلك :
3859 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : حدثنا
محمد بن جعفر ، قال : حدثنا
شعبة ، عن
عثمان بن أبي رواد ، عن
عطاء أنه قال في هذه الآية : "
كذكركم آباءكم " قال : هو قول الصبي : يا أباه! .
3860 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
إسحاق ، قال : حدثنا
زهير ، عن
جويبر ، عن
الضحاك : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم " يعني بالذكر ، ذكر الأبناء الآباء .
3861 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : قال لي
عطاء : "
كذكركم آباءكم " : أبه ! أمه ! .
[ ص: 199 ]
3862 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثنا
صالح بن عمر ، عن
عبد الملك ، عن
عطاء ، قال : كالصبي ، يلهج بأبيه وأمه .
3863 - حدثت عن
عمار ، قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : "
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " ، يقول : كذكر الأبناء الآباء أو أشد ذكرا .
3864 - حدثني
محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : "
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " ، يقول : كما يذكر الأبناء الآباء .
3865 - حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : "
كذكركم آباءكم " يعني ذكر الأبناء الآباء .
وقال آخرون : بل قيل لهم : "
فاذكروا الله كذكركم آباءكم " ، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربهم ، لم يذكروا غير آبائهم ، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آبائهم .
ذكر من قال ذلك :
3866 - حدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " ، قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها ، وأقاموا
بمنى ، يقوم الرجل فيسأل الله ويقول : "اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيت أبي!!" ، ليس يذكر الله ، إنما يذكر آباءه ، ويسأل أن يعطى في الدنيا .
[ ص: 200 ]
قال
أبو جعفر : والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له ، بعد قضاء مناسكهم . وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمر به جل ثناؤه بقوله : (
واذكروا الله في أيام معدودات ) [ سورة البقرة : 203 ] الذي أوجبه على من قضى نسكه بعد قضائه نسكه ، فألزمه حينئذ من ذكره ما لم يكن له لازما قبل ذلك ، وحث على المحافظة عليه محافظة الأبناء على ذكر الآباء في الإكثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرع الولد لوالده ، والصبي لأمه وأبيه ، أو أشد من ذلك ، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه ، وهو وليه .
وإنما قلنا : "الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاج بعد قضاء مناسكه بقوله : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" : "جائز أن يكون هو التكبير الذي وصفنا" ، من أجل أنه لا ذكر لله أمر العباد به بعد قضاء مناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم ، سوى التكبير الذي خص الله به أيام
منى .
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أنه جل ثناؤه قد أوجب على خلقه بعد قضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبا عليهم قبل ذلك ، وكان لا شيء من ذكره خص به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه كانت بينة صحة ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا .