القول في
تأويل قوله ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه )
قال
أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : (
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) لم تغيره السنون التي أتت عليه .
وكان طعامه - فيما ذكر بعضهم - سلة تين وعنب ، وشرابه قلة ماء .
وقال بعضهم : بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين ، وشرابه زقا من عصير .
وقال آخرون : بل كان طعامه سلة تين ، وشرابه دن خمر - أو زكرة خمر .
[ ص: 460 ]
وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ، ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله .
وأما قوله : (
لم يتسنه ) ففيه وجهان من القراءة :
أحدهما : " لم يتسن " بحذف " الهاء " في الوصل ، وإثباتها في الوقف . ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في " يتسنه " زائدة صلة ، كقوله : (
فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وجعل " تفعلت " منه : . " تسنيت تسنيا " واعتل في ذلك بأن " السنة " تجمع سنوات ، فيكون " تفعلت " على صحة .
ومن قال في " السنة " " سنينة " فجائز على ذلك وإن كان قليلا أن يكون " تسنيت " . " تفعلت " بدلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا : " تظنيت " وأصله " الظن " ; وقد قال قوم : هو مأخوذ من قوله : (
من حمإ مسنون ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] وهو المتغير . وذلك أيضا إذا كان كذلك ، فهو أيضا مما بدلت نونه ياء .
وهو قراءة عامة قرأة
الكوفة .
[ ص: 461 ]
والآخر منهما : إثبات " الهاء " في الوصل والوقف . ومن قرأه كذلك ، فإنه يجعل " الهاء " في " يتسنه " لام الفعل ، ويجعلها مجزومة ب " لم " ويجعل " فعلت " منه : " تسنهت " " ويفعل " : " أتسنه تسنها " وقال في تصغير " السنة " : " سنيهة " " وسنية " " أسنيت عند القوم " " وأسنهت عندهم " إذا أقمت سنة .
وهذه قراءة عامة قرأة أهل
المدينة والحجاز .
قال
أبو جعفر : والصواب من القراءة عندي في ذلك إثبات " الهاء " في الوصل والوقف ، لأنها مثبتة في مصحف المسلمين ، ولإثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك .
ومعنى قوله : (
لم يتسنه ) ، لم يأت عليه السنون فيتغير على لغة من قال : " أسنهت عندكم أسنه " : إذا أقام سنة ، وكما قال الشاعر : .
وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
[ ص: 462 ]
فجعل " الهاء " في " السنة " أصلا وهي اللغة الفصحى .
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها .
فإن اعتل معتل بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هن زوائد على نية الوقف ، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهن ، وذلك كقوله : (
فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وقوله : (
يا ليتني لم أوت كتابيه ) [ الحاقة : 25 ] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد ، وأنه ألحق على نية الوقف . فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غير زائد ، فغير جائز وهو في مصحف المسلمين مثبت صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات .
[ ص: 463 ]
على أن ذلك ، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد ، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد ، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع ، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء . وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات " الهاء " في الوصل والوقف . غير أن ذلك - وإن كان كذلك - فلقوله : (
لم يتسنه ) حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه .
ومما يدل على صحة ما قلنا من أن " الهاء " في " يتسنه " من لغة من قال : " قد أسنهت " " والمسانهة " ما : -
5918 - حدثت به عن
nindex.php?page=showalam&ids=12074القاسم بن سلام قال : حدثنا
ابن مهدي ، عن
أبي الجراح ، عن
سليمان بن عمير قال : حدثني
هانئ مولى عثمان قال : كنت الرسول بين
عثمان nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت ، فقال
زيد : سله عن قوله : " لم يتسن " أو " لم يتسنه " فقال
عثمان : اجعلوا فيها " هاء " .
5919 - حدثت عن
القاسم وحدثنا
محمد بن محمد العطار ، عن
القاسم ، وحدثنا
أحمد والعطار جميعا ، عن
القاسم قال : حدثنا
ابن مهدي ، عن
ابن المبارك قال : حدثني
أبو وائل شيخ من أهل
اليمن عن
هانئ البربري قال : كنت عند
عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى
أبي بن كعب فيها : " لم يتسن " " وفأمهل الكافرين " [ الطارق : 17 ] " ولا تبديل للخلق " [ الروم : 30 ] .
[ ص: 464 ] قال : فدعا بالدواة ، فمحا إحدى اللامين وكتب (
لا تبديل لخلق الله ) ومحا " فأمهل " وكتب (
فمهل الكافرين ) وكتب : (
لم يتسنه ) ألحق فيها الهاء . .
قال
أبو جعفر : ولو كان ذلك من " يتسنى " أو " يتسنن " لما ألحق فيه أبي " هاء " لا موضع لها فيه ، ولا أمر
عثمان بإلحاقها فيها .
وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن
أبي بن كعب .
قال
أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (
لم يتسنه ) .
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه : لم يتغير .
ذكر من قال ذلك :
5920 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة بن المفضل ، عن
محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : (
لم يتسنه ) لم يتغير .
5921 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
لم يتسنه ) لم يتغير .
5922 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة مثله .
5923 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، [ ص: 465 ] عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : " فانظر إلى طعامك " من التين والعنب " وشرابك " من العصير " لم يتسنه " يقول : لم يتغير فيحمض التين والعنب ، ولم يختمر العصير ، هما حلوان كما هما . وذلك أنه مر جائيا من
الشام على حمار له ، معه عصير وعنب وتين ، فأماته الله ، وأمات حماره ، ومر عليهما مائة سنة .
5924 - حدثت عن
الحسين بن الفرج قال : سمعت
أبا معاذ قال : أخبرنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : لم يتغير ، وقد أتى عليه مائة عام .
5925 - حدثني
المثنى قال : أخبرنا
إسحاق قال : حدثنا
أبو زهير ، عن
جويبر ، عن
الضحاك بنحوه .
5926 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله قال : حدثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
لم يتسنه ) لم يتغير .
5927 - حدثنا
سفيان قال : حدثنا أبي ، عن
النضر ، عن
عكرمة : (
لم يتسنه ) لم يتغير .
5928 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد : (
لم يتسنه ) لم يتغير في مائة سنة .
5929 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : أخبرني
بكر بن مضر قال : يزعمون في بعض الكتب أن
أرميا كان
بإيليا حين خربها
بختنصر ، فخرج منها إلى
مصر فكان بها . فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى
بيت المقدس . فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " ؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فإذا حماره حي قائم على رباطه ، وإذا طعامه سل عنب
[ ص: 466 ] وسل تين ، لم يتغير عن حاله .
قال
يونس : قال لنا
سلم الخواص : كان طعامه وشرابه سل عنب ، وسل تين ، وزق عصير .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم ينتن .
ذكر من قال ذلك :
5930 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله : (
لم يتسنه ) لم ينتن .
5931 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
5932 - حدثني
القاسم قال : حدثنا
الحسن قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قال
مجاهد قوله : (
إلى طعامك ) قال : سل تين ( وشرابك ) ، دن خمر (
لم يتسنه ) يقول : لم ينتن .
قال
أبو جعفر : وأحسب أن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما رأوا أن قوله : (
لم يتسنه ) من قول الله - تعالى ذكره - : (
من حمإ مسنون ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] بمعنى المتغير الريح بالنتن ، من قول القائل : " تسنن " . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك .
فإن ظن ظان أنه من " الأسن " من قول القائل : " أسن هذا الماء يأسن أسنا ،
[ ص: 467 ] كما قال الله - تعالى ذكره - : (
فيها أنهار من ماء غير آسن ) [ محمد : 15 ] ، فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن ، ولم يكن " يتسنه " .
[ فإن قيل ] : فإنه منه غير أنه ترك همزه ،
قيل : فإنه وإن ترك همزه ، فغير جائز تشديد نونه ، لأن " النون " غير مشددة ، وهي في " يتسنه " مشددة ، ولو نطق من " يتأسن " بترك الهمزة لقيل : " يتسن " بتخفيف نونه بغير " هاء " تلحق فيه . ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من " الأسن " .