[ ص: 51 ] القول في تأويل
قوله تعالى ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله )
قال
أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وليكتب
كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين " كاتب بالعدل " يعني : بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما ، بما لا يحيف ذا الحق حقه ، ولا يبخسه ، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه ، كما :
6338 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد عن
قتادة في قوله : "
وليكتب بينكم كاتب بالعدل " قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ، ولا يزيدن فيه باطلا .
وأما قوله : "
ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فإنه يعني : ولا يأبين كاتب استكتب ذلك ، أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه .
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك ،
[ ص: 52 ] نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق .
ذكر من قال ذلك :
6339 - حدثنا
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قول الله - عز وجل - : "
ولا يأب كاتب " قال : واجب على الكاتب أن يكتب .
6340 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قلت
لعطاء : قوله : "
ولا يأب كاتب أن يكتب " أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال : نعم قال :
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، وقال
مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب .
6341 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد : "
ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " بمثله .
6342 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
إسرائيل عن
جابر عن
عامر nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء قوله : "
ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت ، فلا تأب أن تكتب لهم .
ذكر من قال : " هي منسوخة " . قد ذكرنا جماعة ممن قال : " كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها " وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني .
6343 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
أبو زهير عن
[ ص: 53 ] جويبر عن
الضحاك : "
ولا يأب كاتب " قال : كانت عزيمة ، فنسختها : (
ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .
6344 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر . عن أبيه ، عن
الربيع : "
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فكان هذا واجبا على الكتاب .
وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه .
ذكر من قال ذلك :
6345 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله : "
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " يقول : لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله - عز وجل - أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ، وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب . ولا دلالة تدل على أن أمره - جل ثناؤه - باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه .
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : "
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " . لأن ذلك إنما أذن الله - تعالى ذكره - به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب . فأما والكتاب والكاتب موجودان فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله - تعالى ذكره - به في قوله : "
فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " .
[ ص: 54 ]
وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها . فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر ، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء .
ولو وجب أن يكون قوله : (
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ناسخا قوله : "
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " - لوجب أن يكون قوله : (
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) [ سورة المائدة : 6 ] ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله - عز وجل - بقوله : (
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) [ سورة المائدة : 6 ] وأن يكون قوله في كفارة الظهار : (
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) [ سورة المجادلة : 4 ] ناسخا قوله : (
فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) [ سورة المجادلة : 3 ] . فيسأل القائل إن قول الله - عز وجل - : "
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ناسخ قوله : "
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " : ما الفرق بينه وبين قائل في التيمم وما ذكرنا قوله فزعم أن كل ما أبيح في حال
[ ص: 55 ] الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخ بقوله : "
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ؟
فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : "
فإن أمن بعضكم بعضا " كلام منقطع عن قوله : "
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله : "
فرهان مقبوضة " . وإنما عنى بقوله : "
فإن أمن بعضكم بعضا " : "
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " فأمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .
قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله : " ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " ؟
وأما الذين زعموا أن قوله : " فاكتبوا " وقوله : " ولا يأب كاتب " على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم يعارضون بسائر أمر الله - عز وجل - الذي أمر في كتابه ، ويسألون الفرق بين ما ادعوا في ذلك وأنكروه في غيره . فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .
ذكر من قال : " العدل " في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " : الحق .
[ ص: 56 ]