صفحة جزء
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم .

روى أحمد والشيخان ، وأصحاب السنن الأربعة ، وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي ، فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض . هكذا أورده في الدر المنثور عند ذكر الآية .

وهي المراد من آية الفرائض هنا للتصريح بذلك في روايات أخرى عند كثيرين ، منها ما رواه ابن سعد والنسائي وابن جرير والبيهقي في سننه عن جابر قال : اشتكيت فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي ، فقلت : يا رسول الله ، أوصي لأخواتي بالثلث ؟ قال : " أحسن " قلت : بالشطر ؟ قال : " أحسن " ثم خرج ، ثم دخل علي ، فقال : " إني لا أراك تموت في وجعك هذا ، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك وهو الثلثان " فكان جابر يقول : نزلت هذه الآية في : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة .

وأخرج العدني والبزار في مسنديهما ، وأبو الشيخ في الفرائض بسند صحيح عن حذيفة : نزلت آية الكلالة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير له ، فوقف النبي صلى الله [ ص: 86 ] عليه وسلم فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه . فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيتك كما لقاني ، والله لا أزيدك على ذلك شيئا أبدا .

أقول : ويفسر قوله " فلقيتك كما لقاني " ما رواه عبد الرزاق وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن سيرين قال : نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان ، فبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة ، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب ، وهو يسير خلفه ، فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ، ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدثك يومئذ ، فقال عمر : لم أرد هذا ، رحمك الله .

وقد بينا في الجزء الرابع من التفسير ( ص 245 - 348 من مطبوع الهيئة ) معنى الكلالة ، واشتباه عمر رضي الله عنه فيها ، وسؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها بنفسه ، وبواسطة بنته حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . وروى ابن راهويه وابن مردويه أن هذه الآية نزلت بسبب سؤاله عن الكلالة فلم يفهمها ، فكلف حفصة أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها عند ما تراه طيبة نفسه ، وروى مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال : " ما سألت النبي ، صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : " تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " وروى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والبيهقي عن البراء بن عازب ، أن رجلا سأل النبي ، صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال : " تكفيك آية الصيف " وروى عبد بن حميد ، وأبو داود في المراسيل ، والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، مثله ، وزاد : " فمن لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة " وأخرجه الحاكم موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة .

قال الخطابي : أنزل الله في الكلالة آيتين ، إحداهما في الشتاء ، وهي الآية التي في أول سورة النساء ، وفيها إجمال وإبهام ، لا يكاد يتبين هذا المعنى من ظاهرها ، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف ، وهي التي في آخر سورة النساء ، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء ، فأحال السائل عليها ; ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها . اهـ .

أقول : وقد بينا في تفسير الآية الأولى أنها نزلت في الإخوة من الأم بعد بيان إرث الوالدين ; لأنهم يحلون محلها عند فقدها ، فيأخذون ما كانت تأخذه ، ثم عرضت الحاجة إلى بيان حكم إخوة العصب عند مرض جابر ، فنزلت هذه الآية ، وما ورد أنها نزلت في السفر غلط ، سببه أن حذيفة لما تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ظن أنها نزلت في ذلك الوقت ; لأنه لم يكن سمعها من قبل ، وبهذا يجمع بين الروايتين ، وكثيرا ما كان يظن الصحابي [ ص: 87 ] عند سماعه الآية لأول مرة ، أو عند حدوث حادثة ، أنها نزلت في ذلك الوقت أو عند حدوث تلك الحادثة ، وتكون قد نزلت قبل ذلك ، ومن علم هذا سهل عليه الجمع بين كثير من الروايات المتعارضة في أسباب النزول ، وهي كثيرة جدا ، ومن الغلط على الغلط ، قول بعضهم : إن السفر الذي نزلت فيه هو سفر حجة الوداع ، وإنما كانت حجة الوداع في الشتاء ، وقد صرح في الروايات الصحيحة أن هذه هي آية الصيف ، ورواية نزولها بسبب سؤال عمر لا تصح .

ثم إن اختلافهم في تفسير الكلالة له مثار من اللغة ومجال من الآيتين . أما الأول : فقد قيل : إن أصل الكلالة في اللغة ما لم يكن من النسب لحا ; أي لاصقا بلا واسطة ، وقيل : إنه ما عدا الوالد والولد من القرابة ، وهو بيان للقول الأول ، وقيل : ما عدا الولد فقط ، وقيل : الإخوة من الأم ، قال في لسان العرب عند ذكره : وهو المستعمل ، وقيل : الكلالة من العصبة من ورث معه الإخوة من الأم . ويطلق هذا اللفظ على الميت الذي يرثه من ذكر . وقيل : بل على الورثة غير من ذكر ، وقيل : على كل منهما ، والمرجح القرينة ، وهذا هو الصحيح لغة الذي يجمع به بين النصوص ، والجمهور على أن الكلالة من الموروثين من لا ولد له ولا والد ، وهو الذي قضى به أبو بكر رضي الله عنه وهو الحق ، وفيه الحديث الذي أرسله أبو داود ووصله الحاكم ، ولعله لو بلغهم كلهم لزال به كل خلاف .

وأما الثاني : وهو مجال الخلاف بين الآيتين ، فهو أن الآية الأولى التي ذكرت بين آيات الفرائض في أوائل السورة لم تفسر الكلالة ، وإنما ذكرت ما يرثه الإخوة للأم إرث كلالة ، وأجمعوا على أن المراد بالإخوة فيها الإخوة من الأم ، والآية الثانية بينت فرض أخوات العصب كلالة ، واشترطت فيه عدم الولد ، ولكن من تأمل الآيات كلها علم أنه لا خلاف ولا إشكال فيها ، ذلك أنه بين قبل الآية الأولى إرث الأولاد ، ثم إرث الوالدين مع وجود الأولاد وعدمه ، ومع وجود الإخوة وعدمه ، ثم إرث الأزواج مع وجود الأولاد وعدمه ، وهؤلاء هم الذين يدلون إلى من يرثونه بأنفسهم ، وكل من عداهم يرث بالواسطة ، فيعد كلالة على الإطلاق ، ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ( 4 : 12 ) ومعنى يورث كلالة : يموت فيرثه من يرثه من أهله إرث كلالة ، أو حال كونه - أي الميت - كلالة ; أي : لا ولد له ولا والد ، فلو لم يعلم هذا من اللغة لعلم من الآيات السابقة ; لأنه تقدم فيها ذكر إرث كل منهما ، فتعين أن تكون الكلالة عبارة عن عدمهما ، ولم يشترط ألا يكون له زوج ; لأن العرب تطلق الكلالة على النسب دون الصهر ، ولولا ذلك لكانت القرينة قاضية بأن يقال : [ ص: 88 ] إن المراد بالكلالة هنا من ليس له ولد ولا والد ولا زوج ; لأن الزوج يرث بلا واسطة كالأصول والفروع ، وقد ذكر فرضه ذكرا وأنثى قبل ذكر الكلالة ، فعلم من هذه الآية أن الإخوة من الأم أصحاب فرض في الكلالة ، وأن فرضهم هو فرض الأم التي حلوا محلها في الإرث ، وهو من القرائن على كون المراد الإخوة من الأم ، وبقي الإخوة من الأب والأم معا أو من الأب فقط مسكوتا عنهم ، وقد بينت السنة أن من لم يفرض له فرض من الأقارب يحوز ما بقي من التركة بعد الفريضة إن كان عصبة ، على قاعدة : ( أخذ الذكر مثل حظ الأنثيين ) وقاعدة كون الأقرب يحجب الأبعد . فلما مرض جابر وله أخوات من عصبته ، أراد أن يوصي لهن ; لأنه ليس لهن فرض وهو كلالة ، والعرب لم تكن تورث الإناث ، فأنزل الله آية الفتوى في الكلالة ، فجعل لهن فيها فرضا ، ولكن روي أن عمر رضي الله عنه أخذ بظاهر هذه الآية ; إذ نفت الولد ، ولم تنف الوالد ، وروي أنه رجع في آخر الأمر إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه والجمهور ، وروي أنه كان كتب رأيه في لوح ومكث يستخير الله مدة فيه ، يقول : اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه . حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي ، ولم يدر أحد ما كتب فيه ، فقال : إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا ، وكنت أستخير الله فيهما ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه ، وروى عبد الرزاق وابن سعد عن ابن عباس ، قال : أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال : " احفظ عني ثلاثا ، فإني أخاف ألا يدركني الناس ، أما أنا فلم أقض في الكلالة ، ولم أستخلف على الناس خليفة ، وكل مملوك لي عتيق " وروي أيضا أن عليا كان أنكر قول أبي بكر : إن الكلالة من لا ولد له ولا والد ، ثم رجع إلى قوله .

وههنا عبرة يجب تدبرها ، وهي أنني لم أر في سيرة عمر رضي الله عنه أغرب من هذه المسألة ، ولا أدل منها على قوة دينه ، وإيمانه بالقرآن ، وحرصه على بيان كل حكم من الشرع بدليله ، ووقوفه إذا لم تتبين له الحجة ، ولا سيما إذا كان الحكم في القرآن فلا مجال للاجتهاد فيه ، وقد سئل مرة عن الكلالة وهو على المنبر ، فقال : الكلالة ، الكلالة ، الكلالة ، وأخذ بلحيته ثم قال : والله لأن أعلمها أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من شيء ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف ؟ " فأعادها ثلاث مرات . رواه ابن جرير ، فالظاهر - إن صحت الروايات - أن عمر كان يحب أن يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكام الكلالة بالتفصيل ، فيسأله عن الكلالة سؤالا مطلقا مبهما ، لا يبين مراده منه ، فيذكر له - صلى الله عليه وسلم - ما أنزل الله ، ولا يزيده من اجتهاده شيئا ، فكبرت المسألة في نفسه ، وصارت إذا ذكرت تهوله ، وتحدث في نفسه اضطرابا ، فلا يتجرأ أن يستعمل [ ص: 89 ] اجتهاده ورأيه في فهمها . وقد عهد كثير من العقلاء ما هو أغرب من هذا ، وهو أن يعجزوا عن تصور بعض الأمور ; كبعض أرقام الحساب مثلا ، ويكون تصورهم وإدراكهم لكل ما عدا ذلك صحيحا ، من غير أن يكون هنالك ما تخافه النفس ، ويضطرب له العصب ، كالقول في كتاب الله - تعالى - بغير بينة ، فهل يعتبر بهذا من يقدمون اجتهادهم أو اجتهاد شيوخهم على ظاهر القرآن أو السنة ، أو الذين لا يقدمون كتاب الله على كل شيء ؟

وجملة القول : أن الكلالة من الوارثين من كل وأعيا عن أن يصل إلى الميت الموروث بنفسه ; فهو يصل إليه بواسطة من يتصل نسبه به بالذات ، وإنما النسب المتصل بالذات - الأصل والفرع وما علا من الأصول وسفل من الفروع - هو عمود النسب ، فلا يكون كلالة ; فالكلالة من الوارثين إذا هم الحواشي الذين يدلون إلى الميت بواسطة الأبوين أحدهما أو كليهما من الأطراف ، والكلالة من الموروثين هو الذي يرثه غير الولد والوالد ، فهذا ما كان يفهمه الصحابة ; لأنه المعروف في العربية ، ولا صحة لغيره ، وما اشتبه بعضهم إلا لنفي الولد دون الوالد في هذه الآية ; لأنهم عهدوا أن القرآن خال من العبث ، واعتقدوا أنه منزه عنه في ذكر ما يثبته وترك ما يتركه في معرض الحاجة إلى بيانه ، وهم موقنون بأنهم حفظوا هذا القرآن أكمل حفظ وأتمه ، فلا يحتمل أن يكونوا قد نسوا أو تركوا ذكر نفي الوالد مع نفي الولد في الآية ; ولهذا أغلظ حذيفة الرد على عمر في خلافته ، لما سأله عن الآية ; إذ توهم أنه يحمله على أن يقول فيها شيئا برأيه ، وعلى هذا يكون محل الإشكال هو نكتة نفي الولد دون نفي الوالد في الآية ، وإليك تفسيرها متضمنا لهذه النكتة :

يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة أي يطلبون منك أيها الرسول الفتيا في من يورث كلالة ; كجابر بن عبد الله الذي ليس له والد ولا ولد ، وله أخوات من عصبته ، وهؤلاء لم يفرض لهن شيء في التركة من قبل ، وإنما فرض للإخوة من الأم السدس للواحد منهم ، والثلث لما زاد عن الواحد ، شركاء فيه مهما كثروا ; لأنه سهم أمهم ليس لها سواه ، فقل لهم : إن الله يفتيكم في الكلالة التي سألتم عنها بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية