[ ص: 303 ] ( خلاصة الآيتين وقتال البغاة وطاعة الأئمة ) قد علم من التفصيل السابق أن هاتين الآيتين خاصتان
بعقاب المحاربين المفسدين في الأرض ; أي الذين يعملون في بلاد الإسلام أعمالا مخلة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض ، معتصمين في ذلك بقوتهم ، غير مذعنين للشريعة باختيارهم . فيجب على الأئمة الحكام أن يطاردوهم ويتبعوهم ، فإذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات ، بعد تقدير كل مفسدة بقدرها ، ومراعاة المصلحة العامة ، وسد ذريعة الفساد ،
ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما في هذه الآية ، وإنما حكمه حكم سائر الناس .
وقد قلنا إن بعض العلماء قال : إن الآية نزلت في
الخوارج ، وأوردوا في هذا المقام ما ورد من الأحاديث المنبئة بصفات الذين خرجوا على أمير المؤمنين
علي كرم الله وجهه في عهد خلافته ، ولا يصح ذلك القول بحال من الأحوال ، وقد قاتل أمير المؤمنين
الخوارج برأي من معه من علماء الصحابة ، ولم يعاملهم بعقوبات آية المحاربين المفسدين ; إذ لم يكن غرضهم الإفساد في الأرض ، ولا تخريب العمران وإزالة الأمن ، وإنما هم قوم خرجوا على الإمام العادل بعد البيعة متأولين ، زاعمين أنه زل عن صراط الحق ، وتجاوز تحكيم الشرع إلى الرأي .
وقد اختلف علماء المسلمين في مسألة الخروج على أئمة الجور وحكم من يخرج ; لاختلاف ظواهر النصوص التي وردت في الطاعة والجماعة والصبر وتغيير المنكر ومقاومة الظلم والبغي ، ولم أر قولا لأحد جمع به بين كل ما ورد من الآيات والأحاديث في هذا الباب ، ووضع كلا منها في الموضع الذي يقتضيه سبب وروده ، مراعيا اختلاف الحالات في ذلك ، مبينا مفهومات الألفاظ بحسب ما كانت تستعمل به في زمن التنزيل دون ما بعده . مثال هذا لفظ " الجماعة " إنما كان يراد به جماعة المسلمين التي تقيم أمر الإسلام بإقامة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكن صارت كل دولة أو إمارة من دول المسلمين تحمل كلمة الجماعة على نفسها ، وإن هدمت السنة وأقامت البدعة وعطلت الحدود وأباحت الفجور ، ومثال اختلاف الأحوال تعدد الدول ؛ فأيها تجب طاعته والوفاء ببيعته ؟ وإذا قاتل أحدها الآخر ؛ فأيها يعد الباغي الذي يجب على سائر المسلمين قتاله حتى يفيء إلى أمر الله ؟ كل قوم يطبقون النصوص على أهوائهم مهما كانت ظاهرة .
ومن المسائل المجمع عليها قولا واعتقادا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919414وإنما الطاعة في المعروف " ، وأن
الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الإسلام واجب ، وأن
إباحة المجمع على تحريمه ; كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود ، وشرع ما لم يأذن به الله ، كفر
[ ص: 304 ] وردة ، وأنه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع وحكومة جائرة تعطله ، وجب على كل مسلم نصر الأولى ما استطاع ، وأنه إذا
بغت طائفة من المسلمين على أخرى ، وجردت عليها السيف ، وتعذر الصلح بينهما ، فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله ، وما ورد في الصبر على أئمة الجور - إلا إذا كفروا - معارض بنصوص أخرى ، والمراد به اتقاء الفتنة وتفريق الكلمة المجتمعة ، وأقواها حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919415وألا تنازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحا " . قال
النووي : المراد بالكفر هنا المعصية ، ومثله كثير ، وظاهر الحديث أن
منازعة الإمام الحق في إمامته لنزعها منه لا يجب إلا إذا كفر كفرا ظاهرا ، وكذا عماله وولاته ، وأما الظلم والمعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء إمامته وطاعته في المعروف دون المنكر ، وإلا خلع ونصب غيره . ومن هذا الباب خروج الإمام
الحسين سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إمام الجور والبغي الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر ،
nindex.php?page=showalam&ids=17374يزيد بن معاوية خذله الله وخذل من انتصر له من
الكرامية والنواصب الذين لا يزالون يستحبون عبادة الملوك الظالمين على مجاهدتهم لإقامة العدل والدين . وقد صار رأي الأمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدين المفسدين ، وقد خرجت الأمة العثمانية على سلطانها
عبد الحميد خان ، فسلبت السلطة منه وخلعته بفتوى من شيخ الإسلام ، وتحرير هذه المسائل لا يمكن إلا بمصنف خاص ، والسلام على من اتبع الهدى ورجح الحق على الهوى .