صفحة جزء
قاعدة

اعلم أن نفي العام يدل على نفي الخاص ، وثبوته لا يدل على ثبوته ، وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام ، ولا يدل نفيه على نفيه ، ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به ، فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص ، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام .

فالأول كقوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ( البقرة : 17 ) ولم يقل : بضوئهم . بعد قوله : أضاءت . لأن النور أعم من الضوء ، إذ يقال على القليل والكثير ، وإنما يقال ( الضوء ) على النور الكثير ، ولذلك قال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ( يونس : 5 ) ففي الضوء دلالة على الزيادة ، فهو أخص من النور ، وعدمه لا يوجب عدم الضوء ، لاستلزام عدم العام عدم الخاص ، فهو أبلغ من الأول ، والغرض إزالة النور عنهم أصلا ، ألا ترى ذكره بعده وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( البقرة : 17 ) .

وهاهنا دقيقة ، وهي أنه قال : ذهب الله بنورهم ( البقرة : 17 ) ولم يقل : " أذهب نورهم " لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته ، بخلاف الذهاب ؛ إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ، ومقتضى ذلك منعه من الرجوع .

ومنه قوله تعالى : ياقوم ليس بي ضلالة ( الأعراف : 61 ) ولم يقل : [ ص: 459 ] " ضلال " كما قالوا : إنا لنراك في ضلال ( الأعراف : 60 ) لأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس البتة .

وقال الزمخشري : " لأن الضلالة أخص من الضلال فكان أبلغ في نفي الضلال عنه ، فكأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل لك : لك تمر ؟ فقلت : ما لي تمرة .

ونازعه ابن المنير ، وقال : تعليله نفيها أبلغ من نفي الضلال ؛ لأنها أخص منه ، وهذا غير مستقيم ، فإن نفي الأعم أخص من نفي الأخص ، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم ، فلا يستلزمه ؛ لأن الأعم لا يستلزم الأخص ، فإذا قلت : هذا ليس بإنسان . لم يلزم سلب الحيوانية عنه ، وإذا قلت : هذا ليس بحيوان لم يكن إنسانا ، والحق أن يقال : الضلالة أدنى من الضلال ؛ لأنها لا تطلق إلا على الفعلة منه ، والضلال يصلح للقليل والكثير ، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى ، لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى .

والثاني كقوله تعالى : وجنة عرضها السماوات والأرض ( آل عمران : 133 ) ولم يقل : طولها ؛ لأن العرض أخص ؛ إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس ، وأيضا إذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة أخرى تدل عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرها ؛ لأن ذكرها كالتكرار وهو ممل ، وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة على الأخرى حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها .

وقد يخل بذلك مقصود آخر كما في قوله : وكان رسولا نبيا ( مريم : 51 ) لأجل السجع ، وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه كان الأولى الاقتصار على الدال على الآخر ، فإن ذكرت فالأولى تأخير الدال .

[ ص: 460 ] وقد يخل بذلك لمقصود آخر ، كما في قوله تعالى : مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ( الكهف : 49 ) وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة ، وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا .

وكذلك قوله [ تعالى ] : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ( الإسراء : 23 ) وعلى ذلك القياس يكفي " لهما أف " أو يقول " ولا تنهرهما " " فلا تقل لهما أف " ، وإنما عدل عن ذلك للاهتمام بالنهي عن التأفيف ، والعناية بالنهي ؛ حتى كأنه قال : نهى عنه مرتين : مرة بالمفهوم وأخرى بالمنطوق .

وكذلك قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) فإن النوم غشية ثقيلة تقع على القلب تمنعه معرفة الأشياء ، والسنة مما يتقدمه من النعاس ، فلم يكتف بقوله : لا تأخذه سنة ( البقرة : 255 ) دون ذكر النوم ؛ لئلا يتوهم أن السنة إنما لم تأخذه لضعفها ؛ ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته ؛ فجمع بينهما لنفي التوهمين ، أو السنة في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب ، تلخيصه : هو منزه عن جميع المفترات ، ثم أكد نفي السنة والنوم بقوله : له ما في السماوات وما في الأرض ( البقرة : 255 ) لأنه خلقهما بما فيهما ، والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ، ومن يكن له ما فيهما فمحال نومه ومشاركته ؛ إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما .

وأيضا فإنه يلزم من نفي السنة نفي النوم ، أنه لم يقل : لا ينام ، وإنما قال : لا تأخذه ( البقرة : 255 ) يعني لا تغلبه ؛ فكأنه يقول : لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم ، والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ، ومنه سمي الأسير مأخوذا وأخيذا ، وزيدت ( لا ) في قوله : ( ولا نوم ) لنفيهما عنه بكل حال ، ولولاها لاحتمل أن يقال لا تأخذه سنة ولا نوم في حال واحدة ، وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام ، [ ص: 461 ] فيقولون : فقيه عالم ، وشجاع باسل ، وجواد فياض ، ولا يعكسون هذا لفساد المعنى ؛ لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته ، فلم يكن لذكره معنى ، ولا يوصف بالعالم بعد الوصف بالعلام .

وقد اختلف الأدباء في الوصف بالفاضل والكامل أيهما أبلغ على ثلاثة أقوال ؛ ثالثهما : أنهما سواء .

قال الأقليشي : والحق أنك مهما نظرت إلى شخص فوجدته - مع شرف العقل والنفس - كريم الأخلاق والسجايا ، معتدل الأفعال وصفته بالكمال ، وإن وجدته وصل إلى هذه الرتب بالكسب والمجاهدة ، وإماطة الرذائل وصفته بالفضل ، وهذا يقتضي أنهما متضادان ، فلا يوصف الشخص الواحد بهما إلا بتجوز .

وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى : عالم الغيب والشهادة ( المؤمنون : 92 ) إنما قدم الغيب مع أن علم المغيبات أشرف من المشاهدات ، والتمدح به أعظم ، وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح . وأجاب بأن المشاهدات له أكثر من الغائب عنا ، والعلم يشرف بكثرة متعلقاته ، فكان تأخير الشهادة أولى .

وقول الشيخ : إن المشاهدات له أكثر ، فيه نظر ، بل في غيبه ما لا يحصى ويخلق ما لا تعلمون ( النحل : 8 ) وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترق ؛ فالمقصود هنا بيان أن الغيب والشهادة في علمه سواء ، فنزل الترقي في اللفظ منزلة ترق في المعنى ؛ لإفادة استوائهما في علمه تعالى ، ويوضحه قوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ( الرعد : 10 ) فصرح بالاستواء .

[ ص: 462 ] هذا كله في الصفات ، وأما الموصوفات فعلى العكس من ذلك ، فإنك تبدأ بالأفضل فتقول : قام الأمير ونائبه وكاتبه ، قال تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها . . . ( النحل : 8 ) الآية ، فقدم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال ، وقدم البغال على الحمير لذلك أيضا .

فإن قلت : قاعدة الصفات منقوضة بالقاعدة الأخرى ؛ وهي أنهم يقدمون الأهم فالأهم في كلامهم كما نص عليه سيبويه وغيره .

وقال الشاعر :


أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا وأسعفنا فيمن نحب ونكرم     فقلت له نعماك فيهم أتمها
ودع أمرنا إن المهم المقدم

قلت : المراد بقوله : " فقدم الأهم فالأهم " فيما إذا كانا شيئين متغايرين مقصودين ، وأحدهما أهم من الآخر ، فإنه يقدم ، وأما تأخر الأمدح في الصفات فذلك فيما إذا كانتا صفتين لشيء واحد ، فلو أخرنا الأمدح لكان تقديم الأول نوعا من العبث .

هذا كله في صفات المدح ، فإن كانت للذم فقد قالوا : ينبغي الابتداء بالأشد ذما ؛ كقوله تعالى : من الشيطان الرجيم ( النحل : 98 ) قال ابن النفيس في كتاب " طريق الفصاحة " : وهو عندي مشكل . ولم يذكر توجيهه .

وقال حازم في " منهاجه " : يبدأ في الحسن بما ظهور الحسن فيه أوضح ، وما النفس بتقديمه أعنى ، ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح ، والنفس بالالتفات إليه أعنى ، ويتنقل في الشيء إلى ما يليه من المزية في ذلك ، ويكون بمنزلة المصور الذي يصور أولا ما حل من رسوم تخطيط الشيء ، ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق .

التالي السابق


الخدمات العلمية