الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
نفي الشيء رأسا

لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته ، كقوله تعالى في صفة أهل النار : لا يموت فيها ولا يحيا ( طه : 74 ) [ ص: 451 ] فنفى عنه الموت لأنه ليس بموت صريح ، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة ؛ كقوله تعالى : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ( الحج : 2 ) أي : ما هم بسكارى مشروب ، ولكن سكارى فزع .

وقوله : لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( المرسلات : 35 - 36 ) وهم قد نطقوا بقولهم : ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ( الأنعام : 27 ) ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا .

وقوله : لهم قلوب لا يفقهون بها ( الأعراف : 179 ) .

وقوله : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ( الملك : 10 ) .

ومنه قوله : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( الأعراف : 198 ) فإن المعتزلة احتجوا به على نفي الرؤية ؛ لأن النظر لا يستلزم الإبصار ، ولا يلزم من قوله : إلى ربها ناظرة ( القيامة : 23 ) إبصار .

وهذا وهم ؛ لأن الرؤية تقال على أمرين : أحدهما الحسبان ، والثاني العلم ، والآية من المعنى الأول ؛ أي : تحسبهم ينظرون إليك ؛ لأن لهم أعينا مصنوعة بأجفانها وسوادها ، يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه ، وليست تبصر شيئا .

ومنه : فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ( التوبة : 12 ) .

ومنه قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( البقرة : 102 ) فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه أخيرا عنهم ؛ لعدم جريهم على موجب العلم ، كذا قاله السكاكي وغيره .

وقد يقال : لم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد ؛ لأن المثبت أولا نفس العلم ، والمنفي إجراء العمل بمقتضاه ، ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين .

[ ص: 452 ] قال : ونظيره في النفي والإثبات قوله : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( الأنفال : 17 ) .

قلت : المنفي أولا التأثير ، والمثبت ثانيا نفس الفعل .

ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) والمعنى : إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلغ ، كقولك لطالب العلم : إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا أي : في حكم من لم يعلم .

ومنه نفي الشيء مقيدا ، والمراد نفيه مطلقا ، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده ، كقولهم : فلان لا يرجى خيره ، ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى ، غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه .

ومنه : ويقتلون النبيين بغير حق ( آل عمران : 21 ) فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق ، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون عليه من الصفة ، وهي وقوعه على خلاف الحق .

وكذلك قوله : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ( المؤمنون : 117 ) إنها وصف لهذا الدعاء ، وأنه لا يكون إلا عن غير برهان .

وقوله : ولا تكونوا أول كافر به ( البقرة : 41 ) تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر .

وقوله : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ( البقرة : 41 ) لأن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا ، فصار نفي الثمن القليل نفيا لكل ثمن .

وقوله تعالى : لا يسألون الناس إلحافا ( البقرة : 273 ) فإن ظاهره نفي الإلحاف في المسألة ، والحقيقة نفي المسألة البتة ؛ وعليه أكثر المفسرين بدليل قوله : يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ( البقرة : 273 ) ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ، ضرورة أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص .

[ ص: 453 ] ومثله قوله : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ( غافر : 18 ) ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة ، بل نفيه مطلقا ، وإنما قيده بذلك لوجوه :

أحدها : أنه تنكيل بالكفار ؛ لأن أحدا لا يشفع إلا بإذنه ، وإذا شفع يشفع ، لكن الشفاعة مختصة بالمؤمنين ، فكان نفي الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لأضدادهم ؛ كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع : لقد حدثت صديقا نافعا ، وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره ؛ لأن له صديقا ولم ينفع .

الثاني : أن الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد ؛ بل يدل لأغراض من تحسينه أو تقبيحه ، نحو : له مال يتمتع به ، وقوله تعالى : وما آتيناهم من كتب يدرسونها ( سبأ : 44 ) ولهم عذاب أليم ( البقرة : 174 ) .

الثالث : قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات ، وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة ؛ كحديث الخليل مع والده يوم القيامة ، وإنما دل على التلازم دليل الشرع .

وقوله : ولم يكن له ولي من الذل ( الإسراء : 111 ) أي : من خوف الذل ، فنفي الولي لانتفاء خوف الذل ؛ فإن اتخاذ الولي فرع عن خوف الذل وسبب عنه .

وقوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) نفي الغلبة ؛ والمراد نفي أصل النوم والسنة عن ذاته ، ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا ، أما [ ص: 454 ] وقوعا فبقوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) وأما جوازا فبقوله : ( القيوم ) وقد جمعهما قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام .

وقوله : قل أتنبئون الله بما لا يعلم ( يونس : 18 ) أي : بما لا وجود له ؛ لأنه لو وجد لعلمه موجودا لوجوب تعلق علم الله تعالى بكل معلوم .

وقوله تعالى : لن تقبل توبتهم ( آل عمران : 90 ) على قول من نفى القبول لانتفاء سببه وهو التوبة ، لا يوجد توبة فيوجد قبول .

وعكسه : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( الأعراف : 102 ) فإنه نفي لوجدان العهد لانتفاء سببه ، وهو الوفاء بالعهد .

وقوله : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( يوسف : 40 ) أي : من حجة ، أي لا حجة عليها ، فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة . ونظيره من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - : الدجال أعور ، والله ليس بأعور أي : بذي جوارح كوامل بتخيل له أن له جوارح نواقص .

ونظيره قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ( الكهف : 109 ) ليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر ، بل لا تنفد أبدا لا قبل نفاد البحر ولا بعده ، وحاصل الكلام : لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي .

ووقع في شعر جرير قوله :

[ ص: 455 ]

فيا لك يوما خيره قبل شره تغيب واشيه وأقصر عاذله

قال الأصمعي : أنشدته كذلك لخلف الأحمر فقال : أصلحه :

فيا لك يوما خيره دون شره فإنه لا خير لخير بعده شر ، وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب ، قال الأصمعي : فقلت : والله لا أرويه أبدا إلا كما أوصيتني .

نقل ابن رشيق هذه الحكاية في العمدة وصوبها .

[ ص: 456 ] قال ابن المنير : ووقع لي أن الأصمعي وخلفا الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب جرير وحده ؛ لأنه لم يرد إلا " فيا لك يوم خير لا شر فيه " وأطلق " قبل " للنفي كما قلناها في قوله تعالى : لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ( الكهف : 109 ) وقوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ( الرعد : 2 ) وقوله : أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ( الأعراف : 195 ) فإن ظاهره نفي هذه الجوارح ، والحقيقة توجب نفي الآية عمن يكون له فضلا عمن لا يكون له .

وقوله : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم ( لقمان : 15 ) فالمراد : لا ذاك ولا علمك به ، أي : كلاهما غير ثابت .

وقوله : بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ( آل عمران : 151 ) أي : شركاء لا [ ص: 457 ] ثبوت لها أصلا ، ولا أنزل الله بإشراكها حجة . أي تلك ، وإنزال الحجة كلاهما منتف .

وقوله : أتنبئون الله بما لا يعلم ( يونس : 18 ) أي : ما لا ثبوت له ولا علم الله متعلقا به ، نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه ، وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات ، لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان .

وقوله : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ( آل عمران : 90 ) أصله : لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة ، فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدس .

وقوله : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ( النور : 33 ) ومعلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا ؛ لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك .

ونظيره : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ( آل عمران : 130 ) وأكل الربا منهي عنه قليلا وكثيرا ، لكنها نزلت على سبب وهو فعلهم ذلك ، ولأنه مقام تشنيع عليهم ، وهو بالكثير أليق .

وقوله : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . . . الآية ، المعنى : آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها ، إلا أنهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية ، ولهذا إنه لما رد بقوله : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ( غافر : 85 ) بعد إثباته إيمانهم ؛ لأنه ضروري لا اختياري أوجب ألا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعى فيها الحصر والتقييد ؛ كقوله : قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ( الملك : 29 ) فإنه لم يقدم المفعول في " آمنا " حيث لم يرد ذلك المعنى ، فركب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان .

[ ص: 458 ] وقوله تعالى : يتكبرون في الأرض بغير الحق ( الأعراف : 33 ) فقيل من هذا الباب فهي صفة لازمة ، وقيل : التكبر قد يكون بحق ، وهو التنزه عن الفواحش والدنايا ، والتباعد من فعلها .

وأما قوله : والإثم والبغي بغير الحق ( الأعراف : 33 ) فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله : ( بغير الحق ) تأكيدا ، وإن أريد به الطلب كان قيدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية